إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 24 مارس 2008

فريد بوجيدة: "حـوار مع الشـاعـر عـبـد الـرحـمـن بـوعـلـي"

حوار مع الشـاعـر عـبـد الـرحـمـن بـوعـلـي
هناك حركـة شعرية بالـمغرب الشرقي لم يلتفـت إليها النقـد


أجرى الحوار: فريد بوجيدة*

يشكل المشهد الشعري بالمغرب جزءا لا يتجزأ. لذلك لا يمكن توصيفه إلا من خلال مقاربته من جميع الزوايا.. وبالرغم من كون خريطة الشعر لا حدود لها ليس على الصعيد الوطني فحسب، بل على الصعيد العالمي كذلك، فإن منطقة المغرب حافلة بعطاءات غنية عن التعريف. من هنا تأتي أهمية إلقاء الضوء على الحركة الشعرية بالمغرب الشرقي من خلال حوار مع أحد روادها.. يتعلق الأمر بالشاعر عبد الرحمن بوعلي الذي اشتهر بشعره إلى جانب بحوثه الأكاديمية في مجال السرديات على وجه التحديد.. وهذا الحوار معه يبرز أهمية وموقع هذا الشعر "المحلي" على مستوى خريطة المشهد الشعري بالمغرب في مرحلة زمنية محددة، وربما قد تضاف إلى هذه الاعتبارات أسئلة أخرى ما دامت حركة الشعر بمنطقة المغرب الشرقي تعرف تبدلات مستمرة.
ـــــــــــــــــــــ
* في المنطقة الشرقية مؤشرات تدل على انتعاش حركة إبداعية محلية تتمثل في وجوه وأقلام عديدة استطاعت أن تجد لها منفذا في الصحف والمجلات المغربية، إلا أن هذا الإنتاج لا يوازيه انتعاش ثقافي يسم المنطقة ويميزها. كيف يمكن رؤية وتقييم المشهد الثقافي الأدبي عموما، وبالمنطقة الشرقية خاصة؟
- أنا أشترك معك في هذا التقييم العام المتعلق بانتعاش المنطقة الشرقية على مستوى الإبداع الأدبي، وربما أضيف إلى ما قلته شيئا آخر وهو إن الإبداع الشعري والمسرحي بشكل خاص والأدبي والفني بشكل عام وجد في هذه المنطقة بيئة خصبة ساعدته على العطاء، وقد أقول الإضافة، وهذا شيء بثلج الصدر ويدعو إلى الانشراح، مما يجعلنا نأمل إن تتواصل هذه الحركة الفنية والأدبية. ولو حاولنا رصد العلامات الدالة على هذه الحركة فسوف لن تعوزنا الأمثلة، بل سوف نتيه وسط الأسماء ذات الحضور المتميز ففي مجال الشعر هناك عدد لا باس به من الأسماء، وهي ذات مستوى إبداعي جيد جدا، وهي إلى جانب ذلك أثرت على حركة الشعر بالمغرب وان كان النقد لا يلتفت إليها إلا في حالات نادرة، وعلى سبيل المثال اذكر لك بالخصوص تجارب الشعراء الحسين القمري وعبد السلام بوحجر ومحمد لقاح ومحمد بنعمارة ومحمد منيب البوريمي والطاهر دحاني وحموشي سلام وحسن الامراني ومحمد علي الرباوي ومحمد فريد الرياحي ومحمد مكتوب، وكل واحد من هؤلاء ساهم في تأسيس حركة الشعر بالمنطقة. وسواء أكانت بدايته الشعرية ترجع إلى بداية العقد السبعيني أو منتصفه فان الأساس هو مشاركة كل هؤلاء في خلق الجو الثقافي الذي سيدفع بشعراء آخرين من الجيل اللاحق للجيل الذي انتمي إليه. ومن المنطقي أن يحاول الجيل الجديد أن يستفيد من التجربة السابقة وان كان له تكوينه الثقافي والاجتماعي والنفسي الخاص به، وان يحاول أن بخلق لنفسه خصوصيات لا اعتقد أن النقد حاول الالتفات إليها.. ولأنني ذكرت أسماء الجيل السبعيني ليس لمجرد الذكر ولكن للتاريخ ولأرد الاعتبار إليهم فأرى ضروريا الإشارة إلى شعراء الجيل الجديد وليعذرني من لم أتمكن من ذكره فهناك أسماء لها قيمتها في التجربة الشعرية مثل عبد الناصر لقاح ويحي الشيخ والطاهر بن الزبير ومحمد جناتي وعبد الحميد جماهري وحسايني الطاهر ومحمد عبد الصمد بنعيادة وعبد القادر لقاح وعيسى لقاح ومحمد عمارة وغيرهم. وأنا على يقين بان هؤلاء لديهم الكثير من أسباب النجاح الشعري ومن الموهبة، وهم يقرؤون كثيرا ولهم اطلاع واسع على الثقافة العالمية ولا يمكن في رأيي أن ننقص من تجربتهم، فهذه التجربة وان لم تقم بعد مقام تجربة جيل السبعينات أصبحت لها ملامحها الخاصة ووضعت قواعدها على ارض التجربة وحصدوا شيئا من النجاح. لكن لماذا لم تترجم هذه التجربة على الصعيد المحلي؟ ولماذا لم تظهر كانتعاش للحركة الشعرية على ارض الواقع؟ أظن أنه ينبغي أن نكون واعين بالواقع الثقافي في المغرب، وفي الوطن العربي. وكما نعلم فهذا الواقع ليس مزدهرا كما قد يعتقد ويحيل إلى الرتابة والتشظي، وأسباب ذلك أن الهامش الثقافي ضئيل جدا وان الاهتمام بالمسالة الثقافية من قبل من يملكون المسؤولية والإمكانيات منعدم..ز
* ما هو اثر البحث الجامعي ودوره في إضاءة ما هو معتم في قصائد شعراء المنطقة والإنتاج الأدبي عموما؟
- اسمح لي أن ابدي ملاحظة أولية جوابا عن سؤالك، وتتعلق بالبحث الجامعي في المغرب، فهذا البحث فيما اعتقد هو وليد ناشئ رغم عراقة بعض جامعاتنا كجامعتي الرباط وفاس، ولهذا فلا ينبغي أن ننتظر منه الشيء الكثير، هذا من ناحبة أولى، ومن ناحية ثانية اعتقد أن الطريقة التي يتم التعامل بها مع البحث الجامعي فيها سيئ من الاضطراب بل ومن المغالطة، أقول هذا لأنني اقتنعت أن الكثير من الأبحاث التي قدمت سواء في مجال الشعر أو الرواية أو النقد أو المسرح ما كان لها أن تقدم لو توفر الجو العلمي النظيف، كما أن كثيرا من الأبحاث التي وجدت الرعاية وتم نشرها في شكل كتب هي أبحاث مثلها مثل الأبحاث التي لا زالت موضوعة في الرفوف، بل وان بعض الأبحاث التي لم تجد ناشرا يتكرم عليها بالنشر تتميز وتتفوق عن بعض الأبحاث المنشورة.
وجوابا عن سؤالك حول اهتمام البحث الجامعي بشعر المنطقة استطيع أن أقول لك أن شعر هذه المنطقة لا زال لم يلق العناية اللازمة رغم أن بعض الأبحاث أشارت إليه في شكل شذرات، اذكر من تلك الأبحاث بحث ذ. عزيز الحسين في كتابه "شعر الطليعة في المغرب" وبحث ذ. عبد الرحمن حوطش في كتابه "الشعر والثورة". وكلا الكتابين نشرا، أما الذي اهتم بهذا الشعر وقام بدراسته دراسة وافية فهو ذ. محمد علي الرباوي في بحثه "الشعر المغربي المعاصر في المغرب الشرقي"، وللأسف لا زال هذا البحث قابعا في الرف.
هناك اهتمام كذلك بهذا الشعر في أبحاث طلبة الجامعة، خصوصا جامعة محمد الأول وهي أبحاث مهمة، وفي اعتقادي فان هذه الأبحاث باهتمامها بالنصوص الشعرية حاولت أن تقدم هذه النصوص تقديما جيدا وان تقترب من عوالم أصحابها وان تضيء كل العتمات وكل الأنفاق بالإنصات إلى صوت الشاعر في هذه النصوص. هناك بعض الأبحاث التي تعرضت لقضايا ربما لو تعرض لها النقاد لما وصلوا إلى النتائج التي وصل إليها هؤلاء الطلاب..ز ومن هذه الأبحاث أبحاث تعرف أصحابها إلى تجارب الشعراء حسن الامراني ومحمد لقاح ومحمد علي الرباوي والحسين القمري وعبد السلام بوحجر والى تجربتي الشخصية... وأنا اعتقد أن أهم ما كتب عن شعر المنطقة يوجد في هذه الأبحاث.
* لوحظ وجود شعراء من المغرب العربي في مهرجان فاس الشعري الأخير، وهو ما يعتبر عنصرا ايجابيا يساهم في تواصل الشعراء بعضهم ببعض وتنويع عناصر التلقي الشعري لدى الحضور بتباين أو تقارب التجربة الشعرية في كل بلد، وبحكم قرب المنطقة الشرقية من البلدان المغاربية المجاورة هل هناك تفكير على الصعيد المحلي في تعميق هذا التواصل الثقافي الشعري ليشمل المجال الشعري والبحث الأكاديمي في صيغة حلقات عمل وندوات أم أن الأمر بعيد المنال لارتباطه بعوامل تتجاوز ما هو ثقافي؟
- مهرجان فاس الشعري هو مهرجان مثل المهرجانات التي كانت تقام في المغرب. وفي تقديري فان هذا المهرجان وبالرغم من الهالة التي أعطيت له لم يستطع أن يرسخ بعض الثوابت الشعرية والثقافية التي كان من المفروض أن يرسخها باعتباره يجمع شعراء من المغرب وشعراء بعض البلدان العربية، وربما يرجع ذلك في نظري إلى سوء التنظيم الذي سقط فيه المهرجان منذ أول سنة نظم فيها. وأنا اذكر كيف تم استدعاء الشعراء المغاربة إلى أول دورة عقدت لهذا المهرجان وكيف أن إحدى المسؤولات في لجنته التنظيمية -لا علاقة لها بالشعر- حضرت معنا في مهرجان شفشاون وبنوع من السرية وضعت قائمة بأسماء الشعراء المغاربة الذين سيتم استدعاؤهم مستثنية بعض الأسماء اللامعة.ز وهكذا كان أول مهرجان. ثم أضيف شيئا آخر هو أن الدورات التالية كانت تنظم بنفس الطريقة وكان ما كان يهم المنظمين هو فقط أن يعقد المهرجان وان يلتقي الناس وان يتفرقوا.. أما الشعر فذلك أمر آخر، من ناحية أخرى لم أتوصل أنا شخصيا في أي دورة من دورات مهرجان فاس بأي استدعاء هذا مع العلم أنني كنت استدعى إلى مهرجان مكناس الذي كانت تنظمه جمعية البعث الثقافي، والى مهرجان أصيلة الذي كانت تنظمه جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي والى مهرجان شفشاون الذي كانت تنظمه جمعية المعتمد والى مهرجان المربد في بغداد.
بناء على ذلك فانا لا أرى أهمية لهذا المهرجان ما دام يقوم على أسس غير سليمة وما دام يستقطب الأسماء الشعرية كيفما اتفق أما بالنسبة للعمل المغاربي على مستوى التواصل الشعري والثقافي فانا أرى أن العمل في هذا المستوى بات أمرا ضروريا بل وأصبح يفرض نفسه علينا ككتاب ومثقفين وكمسؤولين على صعيد مؤسسات علمية، وانه يشكل الخطوة الأولى التي من شانها أن تقرب بين الآراء والتجارب، ولكن هناك ظروف لا نستطيع أن نتجاوزها في الوقت الراهن، فالمغرب العربي لا زال مفككا خصوصا على المستوى الثقافي وكأنه جزر متباعدة لا رابط بينها والعمل الثقافي هو الذي سيعيد هذا الرابط إلى هذه الجزر، وبرأيي لا بد أن يتحمل المثقفون والشعراء أنفسهم مسؤولياتهم في هذا الاتجاه، أي في اتجاه تطوير العمل الثقافي والاحتكاك الثقافي سواء أكان ذلك عن طريق الزيارات الفردية أو الندوات أو قراءة الأعمال والكتابة عنها.








ـــــــــــــــ
* نشر الحوار بالصفحة الثقافية لجريدة أنوال المغربية عدد الثلاثاء 6/12/1994

الأحد، 23 مارس 2008

بولعوالي التيجاني: حوار مع عبد الرحمن بوعلي 2

الشاعر عبد الرحمن بوعلي
تجـربـة الثـمانيـنـات والتسـعـيـنـات أضـافـت مـلامـح كـانـت غائـبــة للـقـصـيـدة المـغـربـيـة


أجرى الحوار: بولعوالي التيجاني*

ليس هناك ما أدبج به هذا الحوار الذي جمعنا بشاعرنا د. عبد الرحمن بوعلي غير هذه الإشراقات الشعرية التي عمدنا إلى سلها من ديوانه "وردة للزمن المستحيل"، لأن الكلمة الشعرية قادرة على أن تختزل الامتداد وتستوعب التساؤل الآتي من أغوار الذات:
سأشهد أن حبيبة قلبي
أباحت دمي
حين خنت البلاد التي
ترتمي في الشمال
وحين نسيت دمي
واختفيت
ص 27
على بعد مترين من جثتي
أستفيق على مطر ناعم
ثم لا يستجيب إلى لهفة القلب
وهج التراب
ص 24
يا بلادي
مرة أنت
ومر طعم موتاك
وقاس في الهوى العذري
هواك
ص 63
فأقول اسبقيني
وإذا ما التقينا
في جنوب الجنون
أو هضاب التعقل
واختصمنا
فاعلمي أننا
من فم واحد
واعلمي أنني
أشتهيك كما
أشتهي ضفة البحر هذا
وملح البكاء.
ص 41
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تختلف تجارب الحياة من إنسان إلى آخر، ويختلف التصور، لكن يبقى الإنسان متوحدا في الشعور، وإن تمايزت أعراقه وسلالاته، منساقا إلى نجوى الذات .. والممارسة الإبداعية هي أميل سلوك إنساني إلى إدراك هذه الحقيقة، لذا هل من تفسير للجدلية القائمة لديكم بين الأنا المبدعة التي يعكسها الشاعر فيكم والذات الإنسانية التي يمثلها الإنسان عبد الرحمن بوعلي؟
- أولا أود أن أشكركم على إتاحة هذا اللقاء مع القراء. وجوابا عن السؤال أقول إن الحاجة إلى الإبداع والتعبير عن الذات الإنسانية في أجل معانيها هي كحاجة الإنسان إلى الهواء والخبز والماء. ومن هنا لن أكون مبالغا إذ قلت إن الإبداع شيء مشترك بين جميع الناس، فقط هناك من يمتلك القدرة على التعبير بالكلمات ومن يمتلك القدرة على التعبير بأشكال أخرى عقلية أو جسدية..
والشاعر في نظري هو ذلك الإنسان الذي توفرت له الظروف والإمكانيات لكي ينقل أحاسيسه من مستوى المجردات إلى مستوى المحسوسات، وبالتالي، فليس هناك أي انفصال بين حياته وإبداعه، أي أن الجدلية التي تتكلم عليها هي من قبيل البدهيات، وهي من بين الأمور التي تم الحسم فيها في التراث.. غير أن ما يمكن إثارة الانتباه إليه ليس هو هذه الجدلية في حد ذاتها، أي الجدلية بين الأنا المبدعة والإنسان، بين النص الإبداعي وصاحبه، وإنما هو كيف تتحقق هذه الجدلية؟ أي تلك الطريقة التي بمقتضاها يصير الواقع شعرا، وتلك هي إشكالية الإبداع في كل العصور، وما ترانا نقول إلا كلاما قيل آلاف المرات بل ملايين المرات في تاريخ البشرية الشعري.
*حين نتصفح تجربة ما، يجدر بنا الإشارة إلى الفضاء الذي تم عبره تشكل هذه التجربة، إذن هل تهيئ المدار الشعري كفيل بأن يضمن نجاحا؟ ونحن على علم بأن عبد الرحمن بوعلي احتكم إلى هذا المفهوم، عندما وشى كينونته بالكلمات والحروف، واختار الشعر شريكا لحياته. من هنا كيف يمكن اعتبار الانسجام/الزواج الذي كان ولا زال بين الشاعر بوعلي والشاعرة المحترمة ثريا ماجدولين؟ هل هو التحام للشعر بالشعر في الشعر؟ أم سمو ثنائيي ما فوق العرف لتأسيس كون آخر، ماؤه من أنغام، وهواؤه من إيماء، وناره من كلمات...؟
- أولا، لا بد أن نعتبر الشاعر كائنا وإنسانا مثله مثل باقي الناس، ولهذا فإن له مساره الشخصي الذي يجعله ينتمي إلى الناس وإلى الشعب.. واختياره الشخصي تحدده ظروفه العامة والخاصة، ومنها كونه ينتمي- إضافة إلى انتمائه إلى الناس- إلى شريحة هي شريحة الشعراء. ولذلك، فعندما اخترت أن أقترن بالشاعرة ماجدولين- منذ أربعة عشر سنة- كنت متحفزا بعدة حوافز هي ما أسميته بالظروف العامة والخاصة. ومن تلك الحوافز انتمائي وانتماء الشاعرة إلى تلك الشريحة من الشعراء التي شكلت واجهة الشعر المغربي الحق. ذلك الشعر الذي استند في بنيته على واقعنا الممهور بالهزائم والنكسات، وأظن أن لقاءنا في هذه التجربة ومن خلالها هو الذي منحنا سعادة أكبر..إضافة إلى ذلك فقد أصبح لدينا ثلاثة أطفال (لبنى وصبرين وقيس)، وهو نتاج زواجنا الذي أعتز به وأعيشه باعتباره محطة من تاريخي الشخصي. من ناحية أخرى أعتبر أنك على حق عندما أعطيت للشعر كل هذه الأهمية في حياتي التي تأخذ طابعا شخصيا وعاما في نفس الوقت، ولك الحق أيضا في تأول ذلك.
* ما الكتابة الإبداعية؟ سؤال حبرت حوله قراطيس، وألفت فيه كتابات مختلفة ولا محدودة، قديما وحديثا، لكن رغم هذا المجهود الجسور، فالأغلبية الساحقة لم تستوعب بعد الالتزامات التي تطرحها الكتابة الإبداعية، لإزاحة هذا الخلط والخبط، لذا أتوخى أن تضعوا نوعا من الشروط التي يستوجب الاحتكام إليها حتى لا نخل بالعملية الإبداعية؟
- العملية الإبداعية لها قدسيتها، بمعنى أنها مسيجة بقوانين لا يمكن لأي كان كيف ما كان أن يتجاوزها، وإلا فإننا سنكون أمام شيء آخر لا يحمل هذه التسمية.. لكن لا يعني ان يفهم من كلامي هذا أن الإبداع له مواصفات محددة نستطيع أن نشرحها وان نقدمها للآخرين.. وبالتالي يمكن لهؤلاء إذا هم فهموا "الدرس" أن يبدعوا، ذلك أن الإبداع موهبة، واكتشاف هذه الموهبة في الغالب يكون في فترة متقدمة، واغلب الشعراء والكتاب- وخاصة الشعراء- اكتشفت مواهبهم في فترة طفولتهم وشبابهم، وأنا الآن أقول إن الإبداع - أو الكتابة الإبداعية- لا يحتاج إلى قانون صارم بقدر ما يحتاج إلى الموهبة أولا، ثم إلى المران والمراس والتجربة والمعاناة، بكل ما لهذه الكلمات من معان.
إن الموهبة ضرورية، ولذلك فإن أغلب الفاشلين في مجال الكتابة الأدبية والشعرية على الخصوص، إنما يكونون فاقدين لهذه الموهبة أصلا، أما إذا كانوا يتوفرون على الموهبة فيمكن أن يفشلوا أيضا إذا هم استسهلوا ما يمكن أن تجنيه العملية الإبداعية من المران والمراس والتجربة والمعاناة، أي لأنهم لا ينظرون في تجارب غيرهم من الأدباء والكتاب، أو لا يحيون في اندماج مع الواقع.
* لقد احتدت في العقود الأخيرة الصراعات الإيديولوجية، مما أثر بشكل أو بآخر في الممارسة الإبداعية، فأصبح أغلب ما يكتب لا ينشر إلا بعد تأمله تحت المجهر الإيديولوجيا، هذه السلوكات جعلت الأدب عموما ينجر إلى نوع من الاستلاب والتبعية إلى كل ما هو سياسي وإيديولوجي، هل هذا يكفي لضمان استمراريته من موقف أن "الإيديولوجيا معين للأدب" أو أن ذلك الانجرار سوف يكشف -طال الأمد أم قصر- عن الارتجاج العميق الذي يستوطن خلايا الأدب؟
- لا حاجة للتأكيد على أن الأدب ليس بريئا، أي أنه غارق في الواقع، وبالتالي فهو مسكون بالإيديولوجيا، ولذلك فالحديث عن الأدب بعيدا عن الإيديولوجيا هو حديث غير معقول ولا يمكن أن يقبل إلا ممن لا معرفة له بالأدب، بل لا معرفة له بالإنسان. هذا يعني أن الكاتب مهما كانت خلفياته فهو يتكلم من خلال الإيديولوجيا، وفي ذلك يستوي الجميع، أصحاب اليمين وأصحاب اليسار، وفي نظري، فقد يمر الأدب بفترات تطفو فيها الصراعات الإيديولوجية، بل وحتى السياسية،إلا أن ذلك لا يعني انه لا بد أن نرفض هذا الإنتاج، وكذلك فقد يمر الأدب بفترات يكون فيها بعيدا عن هذه الصراعات، ولا يعني هذا انه بمنأى عنها، لأن الأدب كما قلت مسكون بالإيديولوجيا.. ويكفي أن نبحث عن هذه الإيديولوجيا في ثنايا الكتابة. وأنا هنا أتساءل، بل وأسأل هؤلاء الذين يروجون لأدب بدون إيديولوجيا إذا ما كانوا في كتاباتهم هذه لا ينطلقون من مواقف إيديولوجية؟
* المتداول أن نقدنا الأدبي في منأى عن الممارسة الإبداعية، اللهم إلا بعض الاستثناءات، هل هذا صحيح؟ وإلى ماذا ترجع ذلك؟ هل إلى تخاذل النقد أم إلى قصور الإبداع؟
- من المؤكد أن النقد يواكب الإبداع، ومن الضروري أن يواكب الإبداع، وقد يشعر المهتم بالممارسة الإبداعية أن النقد غائب عن الساحة، وهذا شعور صحيح، ذلك أن أغلب الإبداعات المغربية بالخصوص عندما تنشر لا تجد من يقدمها إلى القارئ ويهتم بها، وفي نظري يرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها الوضع القلق-ماديا ومعنويا- للكاتب المغربي، شاعرا كان أو قاصا أو روائيا أو مسرحيا أو ناقدا. فهذا الوضع المرتج هو المسؤول عن غياب الفاعلية النقدية، وأنا لا أتعجب أما استفحال ظاهرة غياب المتابعة النقدية، ولا أشكو منها باعتباري مبدعا بالدرجة الأولى لأنني لا أجد ذلك غريبا إذا عرفنا أن الكاتب المغربي حتى وإن كان يحتل موقعا محترما في سلم الطبقات الاجتماعية، هو في وضع غير مريح لا يسمح له بالإبداع والكتابة. إنه معوز، والمعوز لا ننتظر منه أن يواكب ما ينشر، وإذا ضحى وفعل ذلك، فليس لنا الحق في مطالبته بالمساهمة في نشر الثقافة، ما دامت الدولة بقضها وقضيضها لم تعمل على إعطائه أي اعتبار، فكيف إذن نريد من الكاتب أن يقوم بعمله إذا كان محروما من التقدير، ومن الدعم المادي والمعنوي، ومن التشجيع بنشر أعماله، ومن تعويضه على جزء ولو ضئيل من معاناته وحرمانه؟ من هنا أفهم لماذا يظل الإبداع مغيبا، ولماذا لا يواكب النقد إبداعنا، وأعتقد أن الأدب المغربي سيكون له دور كبير لو فكر الجميع في وضع الكاتب المغربي وفي إعطائه الاعتبار اللازم.
* كيف تنظر إلى تجربة الشباب الإبداعية أو بالأحرى الشعرية، من موقع أنك ساهمت وتساهم في تقويم انحرافها وإثراء خبراتها وتوجيه خطواتها؟
- في نظري، التجربة الإبداعية للشباب الذين سيصيرون كبارا وكهولا، هي تجربة لم يهتم بها النقد المغربي للأسباب التي ذكرتها سابقا، وهي تجربة غنية، ما في ذلك من شك، ويكفي أن نستعيد الأسماء التي كان ولا يزال لها الصدى الطيب، وأن نقف عند إضافاتها المثيرة التي أغنت الحقل الشعري. إن الخلاصة التي نصل اليها بالتأكيد هي أن تجربة الثمانينات والتسعينات أضافت ملامح جوهرية للقصيدة المغربية كانت غائبة لدى جيل الستينات ( جيل السرغيني والمجاطي والخمار) كما كانت غائبة لدى جيل السبعينات بحكم التوجهات الظرفية (جيل عبد الله راج ومحمد بنطلحة والاشعري). وهي ملامح لا يمكن أن تخطئها العين الناقدة خاصة وأنها شكلت اتجاها متفردا لا بد من الحفر عليه والكشف عنه، وهذا اقل ما يمكن أن يقدم لهذا الجيل الشاب الطموح الذي أعطى للقصيدة المغربية صورة أوضح من تلك الصورة التي قدمناها نحن- أي جيلنا.
* في الأخير، ما هي الإرشادات التي تتفضلون بها إلى كل مبدع ناشئ وإلى كل من يغتصب حرمة الإبداع مدعيا انه يكتب نصا، إلى أولائك الذين تورطوا في خطيئة الأكل من فاكهة الإبداع؟ وها هم الآن بين أن يتخلفوا عن الركب وبين أن يستوقفوا الركب، بين أن يتسمروا في الركب، ولو على شفة هوة من مجهول رهيب؟
- لقد قلت لك سابقا أن التجربة الإبداعية لا تحتاج إلى دروس وتلقين، وكما أنني عندما بدأت الكتابة في بداية السبعينات، كنت أنطلق من خارج هذه الدروس، فلا شك أن الجيل الجديد سيعيد نفس الفعل.. ولكن يمكن أن أقول لهذا الجيل ما قاله روائي إنجليزي ذات يوم: "انظر خلفك في غضب".
ـــــــــــــــ
* نشر الحوار بالملحق الثقافي لجريدة الميثاق المغرب عدد الأحد 21-22 غشت 1994

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل 3

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل
الحلقة الثالثة
بقلم: د.عبد الرحمن بوعلي

"عندما نكتب نضع البذور،نحن نفترض أننا نضع نوعا من البذور، ونفترض أننا بالتالي نضع أنفسنا من جديد ضمن التواصل العام للبذور..."
رولان بارط

لم تكتمل دائرة المشهد الشعري في المغرب بجيل السبعينات الذي أطلق عليه المرحوم عبد الله راجع في أطروحته المميزة اسم جيل "الشهادة والاستشهاد"[1]، بل ولم تكتمل حتى نصف الدائرة، ذلك أن الذين كتبوا الشعر المغربي- أو جزءا منه- لحد نهاية السبعينات، لم يكونوا إلا كوكبة الطليعة أو رأس الرمح، وكان لا بد أن تنضاف إليهم كوكبة أو كوكبات أخرى هي ما اصطلح عليه بجيل الثمانينات والتسعينات، وهو جيل شكلته أسماء شابة جاءت إلى ساحة الإبداع بعد أن حققت رصيدا من التذوق الفني والجمالي-الشعري بالدرجة الأولى- وبعد أن فتنت بالحركات التجديدية في الشعر العربي والعالمي.
والحق أن هذه الأسماء الشابة لم تعرف الجيل الستيني على الإطلاق، ولم تكن معرفتها بجيل السبعينات بالمعرفة الكاملة، رغم أن معظمها تخرج على أيدي شعراء السبعينات، وتشرب هموم وطموحات وآمال الواقع المغربي والعربي، وانبهر -في أغلبه- بنماذج شعرية عربية وعالمية كانت تراهن كلها على حداثة مفرطة في الشكلية.
الصفة الثانية في هذا الجيل - ونعتقد أنها صفة أساسية وجوهرية- هي أنه جيل مشاكس، لم يذعن للسابقين عليه، رغم أنه تتلمذ عليهم، وكأن أصحابه أخذوا بذلك الشعار الذي رفعه بعض الروائيين الإنجليز والمتلخص في تلك العبارة القوية والرنانة: "انظر وراءك في غضب". والحق أن نظرتم الغاضبة هاته، وأن رؤيتهم الشعرية التي عبروا عنها، وأن خطاباتهم الشعرية التي خلفوها، إن هي إلا نتاج لوضعية سوسيو-ثقافية وفكرية متأزمة.
وليس مهما أن نتناول هذه الوضعية بتفصيل، ولكن حسبنا أن نشير إلى بعض ملامحها الأساسية.
فأولا: هذا الجيل الجديد، وإن وجد له أسلافا، لم يجد فيهم من يدعم خطواتهم، ويؤثث مخيلتهم، وينتقد توجهاتهم، ويساهم معهم في توصيل أصواتهم، وفي الدفاع عنهم، وإنما وجد جيلا يدعي الريادة وينسبها إلى نفسه دون حجج مقنعة، بل ويحاول أن يرسم صورة مشرقة له حتى يكتسب الشرعية. وهو حتى في انفتاحه على هذا الجيل الجديد إنما يقترح عليه حلولا لا علاقة لها بأي سلوك إبداعي لما في هذه الحلول من طعم أستاذية فجة.
وثانيا: لأن هذا الجيل الجديد وجد أمامه واقعا آخر، ليس هو الواقع الذي عاش فيه السابقون عليه، أي ذلك الواقع الذي كان يترك هامشا للمغايرة والتفرد، بل وجد واقعا اكتملت دائرة الانهزام والمأساوية فيه، وتفتتت أفكاره ورؤاه وتكتلاته، وتحللت مشاريعه الوطنية والقومية، وحتى تلك التطلعات والطموحات الشخصية المسكونة بلذة الفعل والاكتشاف لم تعد قائمة. ولعله كان حريا بهذا الجيل إذن أن يخرج عن القاعدة، وأن يبحث له عن هامش غير موجود يصنعه بالكلمات والأفكار والأشكال دون رضوخ لنموذج مسبق، ودون وصاية من أي أحد.
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم تلك الصرخة المدوية التي عبر عنها الشعراء الشباب-أي التسعينيون- حين تناوشتهم سيوف النقاد والشعراء السابقين، وحين اتهم شعرهم بالسقوط والرداءة والإسفاف[2]. ويمكن أن نفهم تلك الثورة التي قامت، وذلك النقاش الذي كان سببه رأي عبر عنه شاعر سبعيني[3]، بل ويمكن أن نفهم أيضا ذلك الاحتجاج الذي عبر عنه باحث شاب-هو المرحوم محمد الماجري- في رده على رأي مناوش لشاعر سبعيني هو محمد بنيس تناول فيه كتابه "الشكل والخطاب"[4].
وعلى العموم، وبدون تفصيل أكثر، فجيل الثمانينات والتسعينات، وإن كان قد خرج -رسميا وتاريخيا- من المعطف الشعري لسابقيه، فقد خرج عن طاعتهم، وغايرهم فيما يتعلق بالأمور التي لها علاقة بالشعر، مثل مفهوم الحداثة، وعلاقة الشعر بالواقع، وباللغة، وبالتراث، وبالإيديولوجيا.. بل وخرج عن التقليد القديم الذي ربط الشعر بالالتزام والذي درج عليه شعراء الستينات والسبعينات استجابة لنزعات قومية وتحررية. وفي هذا الصدد يمكن القول إن الكثير من القيم الشعرية الفلسفية والأخلاقية والإيديولوجية التي لها علاقة بالإنسان مفهوما وواقعا، والتي دأبت الأصوات الشعرية السابقة على تأسيسها وتجذيرها وحمايتها، لم يعد لها مكان في هذه التجربة الجديدة. فلم يعد يهم إذن في هذه التجربة إلا ما له علاقة بطرق التعبير أو هذا ما يظهر للوهلة الأولى على الأقل، ولذلك فقد أثيرت من جديد مسألة الشعر الموزون والشعر المنثور، وأثيرت قضايا أخرى كان الناقد يظن أنه قد حسم فيها. بعبارة أخرى يمكن القول إن ما أصبح يهم ليس هو ما يقال بل كيف يقال، وهو سؤال كان الجيل السابق-جيل السبعينات- قد طرحه من قبل وأجاب عنه، وقتله بحثا.
إنها مرحلة أخرى، بل إنها عمر آخر سيدخله المشهد الشعري، وكأن القصيدة المغربية دخلت منطقة درجة "الصفر" ، وهي مرحلة أخرى من مراحل الكتابة، وكأن الشاعر قد خرج من همومه الوطنية والقومية ليلج عالما آخر لا خير فيه ولا شر، لا قبح فيه ولا جمال، لا مسؤولية فيه ولا تيه. لكأن الشعر قد تم اختزاله إلى لغة فقط.
وليس هذا فحسب، بل وقد نشعر أن ما أسس فرادة تجربة هذا الجيل الجديد، هو ربط ممارسيه-باختزال شديد- بين الفاعلية الشعرية والفاعلية النظرية، حيث انصهرت جميع التصورات والتهيئات المعاصرة حول مفهوم الشعر ونظريته، فأصبح الشعر "فاعلية كلغة" و"اشتغالا بها" كما يقول هنري ميشونيك[5]، وطرحت مسألة ترسيخ تقليد الحوار وفتح المجال لإعادة النظر في كل ما هو بدهي ومكبوت ومهمش ولا مفكر فيه، أي ما له علاقة "بعصر الأسئلة" حسب التعبير المألوف لأدونيس[6].
ثمة إذن ارتجاج كبير سيشهده المشهد الشعري في نهاية الثمانينات ومع بداية التسعينات، وهو ارتجاج مس الوعي النظري الشعري، وانعكست مظاهره على البناء الشعري في تجربة هؤلاء القادمين إلى الشعر، ليس انطلاقا من النماذج المؤسسة قبلا-عند السياب والملائكة والحيدري والبياتي.. أو عند شعراء الستينات والسبعينات في المغرب: المجاطي والسرغيني والكنوني..- بل انطلاقا من نماذج مترجمة، أغلبها يخلو من الحرارة الشعرية التي توفرها "الأصالة" العربية على مستوى القول الشعري.
لكن ما الذي يعنيه هذا الأسلوب الجديد في الكتابة والنقد والمواجهة؟ هذا الأسلوب الذي لم يفهم على حقيقته والذي لا زال يحير النقاد ويجعلهم يتصرفون وكأنهم لا علاقة لهم بهذا الشعر؟ هل يعني أن هذا الجيل الجديد لم تعد ترضيه النماذج المقولبة السابقة؟ وهل يعني أنه ارتضى القطيعة بدل التواصل؟ وهل تمثل الحداثة بالنسبة إليه مجرد مشروع لا زال لم يتحقق؟... أو لم يقل أدونيس إن " الإبداع يفترض الجديد" و‘أنه "اعتراف بأن الماضي ليس كاملا" [7]؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عبد الله راجع- الشهادة والاستشهاد- دار عيون المقالات، 1986
[2] انظر الملاحق الثقافية للجرائد المغربية: العلم - الاتحاد الاشتراكي- بيان اليوم- أنوال.
[3] جريدة الشرق- مارس 1994.
[4] محمد الماجري- الشكل والخطاب- المركز الثقافي العربي 1992.
[5] هنري ميشونيك- نقد الإيقاع (بالفرنسية) ص63.
[6] أدونيس - النظام والكلام، ص20.
[7] نفسه، ص 26.

السبت، 22 مارس 2008

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل 2

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل
الحلقة الثانية
بقلم: د.عبد الرحمن بوعلي


"الإبداع يفترض خلق الجديد... وهو اعتراف بأن الماضي ليس كاملا"
أدونيس

ثمة إذن جيل من الشعراء المغاربة عاشوا المرحلة الأولى، أو بعبارة أخرى، عاشوا فترة التأسيس الأولى بما تضمنته تلك الفترة من لحظات إيجابية أو سلبية، وبما عكسته من دلالات وقيم وأشكال. وليس من شك في أهمية هذه المرحلة الأولى التي حبلت بكل الخطوات النازعة إلى تجديد المشهد الشعري في المغرب، هذا المشهد الذي كان ينوس بين تقليد التقليد والنسج على منوال الرومانسية الغارقة في تمجيد الذات الشعرية.
ومن هنا، فقد كانت مرحلة الستينات مرحلة هامة، فتحت للتجديد آفاقا ورؤى وتطلعات، سيتجمل مسؤولية تحقيقها الجيل اللاحق الذي نطلق عليه جيل السبعينات.
جـيــل الســبـعـيـنـــات:
وإذا كان جيل الستينات، وهو جيل التأسيس، قد اكتوى بنار الهزيمة بعدما أطلق التجربة الأولى من قفصها، فالجيل الذي سيأتي بعده، وهو الجيل الثاني في الترتيب، لن يجد الأرض مفروشة بالورد، ولن يجد الواقع خاليا من الأشواك، بل سيجد الأرض غير الأرض، والثقوب قد اتسعت قليلا.
لقد كانت الهزيمة هي مبتدأه والاستسلام هو منتاه. وقد شكلا هما معا - الهزيمة والاستسلام- علامتين فارقتين في تاريخه الشعري، ومحددين أساسيين في تجربته. ومن المحتمل بل من المؤكد، أن ما سيمنحه الشرعية الشعرية بالأساس هو هذا الموعد الذي ضربه مع التاريخ، حيث بدأت تباشير تفتت الإيديولوجيا القومية تسطع في سمائه، لتنحو به طريقه نحو مفازات أخرى، وحيث ازدادت قناعته بأن لا بديل غير المضي بالقصيدة حيث التحرر الأعمق والأشمل والأكثر جذرية من كل ما يشدها إلى الوراء، وحيث النظر في غير اكتراث لممارسات الماضي وإنتاجاته.
وكما كانت التصدعات والأزمات التي عرفتها الأمة العربية هي المعالم التي طبعت لحظة ولادة التجربة الشعرية الحديثة، كما يذكر كمال خير بك، فإن تسارع هذه التصدعات والأزمات كانت سببا في تفجر إبداعية هذا الجيل، وفي استقطاب هذه الحركة الشعرية لعشرات الشعراء، معظمهم إن لم نقل جلهم رفعوا شعار النقد والتجديد، جاعلين من التفكير النقدي الجذري الأساس والوسيلة لإعادة التأسيس والبناء.
ومن هذه الزاوية الخاصة يمكن القول إن الفكر عند هؤلاء ازداد اتصالا وتواشجا وجذرية مع ما يسميه أدونيس "أسطورة النهضة" التي "تنهض على مجموعة من المسلمات والمسبقات: القومية، الهوية، الوحدة، الذات، الأصالة، روح الأمة...الخ"[1]. وهو الأمر الذي أدى بهذا الجيل كله إلى أن يتبنى " الثقافة الإيديولوجية" التي تقوم -حسب أدونيس- على تبجيل الماضي وتقديسه. وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم التحمس الشديد لشعراء جيل السبعينات للقضايا الأساسية والهامة التي أفرزتها نهاية الستينات وبداية السبعينات. ومن قبيل تلك القضايا، قضايا فلسطين والهزيمة العربية أمام إسرائيل التي أنهت أو كادت التطلع إلى المستقبل، والتفكك العربي، وحرب لبنان، وقيام حركة المقاومة الشعبية والفصائلية... بل وتحمسهم للقضايا التي تبدو ثانوية وثاوية في علاقة الإنسان بالإنسان، أو في الثقافات الوطنية وما هو محلي..
وتأسيسا على ذلك، كانت الكتابة الشعرية الجديدة تغدو استنساخا أو إعادة إنتاج لما هو كائن من المسلمات والأفكار. وتجد هذه الوضعية - السلبية فنيا وجماليا وإبداعيا- تفسيرها في تبعية الثقافي للسياسي، مرة بشكل كبيعي وإيجابي، وأخرى بشكل قسري وسلبي مفروض، ذلك لأن التبعية وخاصة تبعية الثقافة للأمور السياسية يعمق من تخلف الإبداع، أو كما يقول أدونيس "لأن هيمنة الأدلجة دينيا وفكريا تخلق نصا يقينيا، وهذا النص يقرأ ويعاش بوصفه سلطة تأمر وتنهي، وهو نقيض للشعر ونقيض للمتخيل بخاصة"[2]
وعلينا مع ذلك أن نؤكد أن هذا الاتصال الحميمي بالثقافة الإيديولوجية، الواعي وغير الواعي، الذي شغل هؤلاء الشعراء، يشهد على إصرار وتوق هؤلاء الشعراء لخلخلة البنيات الثقافية السائدة. وقد وجد فعل الخلخلة هذا أصداءه في تجارب دالة تبرز إلى حد كبير -حسب جوليا كريستيفا- "الممارسة الأدبية باعتبارها استثمارا واكتشافا لممكنات اللغة في كونها فعالية تجعل الذوات في مواجهة الشبكات اللسانية (النفسية والاجتماعية)"[3]، بل ويعطي للإبداع امتدادا وينسب أفقه الاختلافي الذي تجمله تجربة جيل السبعينات.
من هذا المنطلق الاختلافي إذن، تشكل هذا الجيل الجديد الذي سيوسع تجربة الشعر المغربي، وسيجعلها تتخذ أفقا يتغيى تجديد أبنيته ومواقعه. وقد يصعب علينا أن نستعرض الأسماء التي برزت والتي طورت نموذج الستينات، ولكن من الممكن أن نذكر أسماء نعتقد أنها تركت بصماتها الشعرية واضحة في عقد السبعين، ولا زالت تواصل مسيرتها بعد أن نضجت تجربتها بفعل الممارسة الدائمة والتنقيح والتطوير. ومن هذه الأسماء نذكر: عبد الكريم الطبال، محمد الميموني، أحمد مفدي، أحمد الطريبق، أحمد بلبداوي، حسن الطريبق، ادريس الملياني، عبد الله راجع، محمد الأشعري، محمد بنيس، محمد بنطلحة، أحمد بنميمون، علال الحجام، عبد الرحمن بوعلي، حسن الأمراني، محمد منيب البوريمي، محمد علي الرباوي، محمد بنعمارة، رشيد المومني، الحسين القمري، محمد لقاح، عبد السلام بوحجر، المهدي أخريف، محمد الشيخي، عبد الرفيع الجواهري، مليكة العاصمي، محمد بودويك، أحمد آية وارهام.....
إن هذه الأسماء وغيرها، وهي تخرج من معطف النموذج الستيني، وهي تكسره وتعارضه، وهي تقلده أيضا، وجدت في الأسلوب المعارض-بالنسبة للنموذج الستيني- وفي أسلوب التجديد والتطوير - بالنسبة للخطاب الشعري- الوسيلة الأولى من أجل بناء صرحها الشعري. فكان أن اقتحمت الواقع ومجاهله وخفاياه، ناسجة منه خطابها الشعري، فساوت بين تجربتها في الحياة وكتابتها الشعرية. من هنا، فقد بدت كتابتها الشعرية وكأنها محاولة لنقل ما يجري في الواقع. والحق أن هذا الأمر - وإن كان يبدو إيجابيا في تلك المرحلة- فإنه أكد سلبياته فيما بعد، حيث اتضح أن الإبداع كان أبعد من أن يكون هو الأساس، وكان تراجعه واضحا في مقابل تقدم الأفكار والمواقف والمضامين.
ولعل أهم ما أكدت به التجربة الشعرية ذاتها في هذه المرحلة انفتاحها على تجريب الشعر المنثور، فقد شكلت المرحلة السابقة -الستينات- ونموذجها الشعري عقبتين أمام انخراط الشعراء بكل حرية في القصيدة النثرية، غير أن المرحلة الراهنة شكلت نقلة نوعية، فصدرت دواوين شعرية تحررت جزئيا أو كليا من ثقل التفعيلة، ومن هذه الدواوين: "وجه متوهج عبر امتداد الأزمنة" لمحمد بنيس، و"صهيل الخيل الجريحة" لمحمد الأشعري، و"مشتعلا أتقدم نجو النهر" لرشيد المومني، و"أسفار داخل الوطن" لعبد الرحمن بوعلي...
إضافة إلى هذا، فقد أكد شعراء آخرون ارتباطهم بالمنجز الشعري العربي القديم والحديث، محاولين الاستفادة منه شعريا وفكريا، ومقتفين آثار "النص الغائب" عند شعراء جاهليين وإسلاميين.. وقد برز من هؤلاء شعراء عديدون منهم على سبيل المثال لا الحصر، عبد الله راجع، وحسن الأمراني، وأحمد بلبداوي، وأحمد مفدي، ومحمد بنطلحة وغيرهم...
وفي مرحلة لاحقة، سيبدأ هذا الجيل في بحثه عما يجعله متفردا، وسيجد في القصيدة الكاليغرافية -الموظفة للخط المغربي والتي تزعمها بنسالم حميش ومحمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي- شكلا آخر من أشكال الشعر المغربي، وسيجد هؤلاء في الأصول الأندلسية والمغربية القديمة ما يثبت هذا التقليد/التجديد، ويجعله فتحا من فتوحات هذا الجيل.
ولئن كانت القصيدة الكاليغرافية قصيرة الحياة، ولم تعمر طويلا، فقد تركت أثرها الكبير في الكتابات التي ستأتي بعد ذلك، وقد شكلت دلالة لا يمكن التقليل من أهميتها، ذلك أنها حررت الإبداعية الشعرية المغربية من القيود التي فرضتها عليها أنساق الكتابات الشعرية السابقة، وعلى الأقل، فقد أمدت هذا الجيل- والجيل الذي سيليه- بالطاقة الخلاقة التي تتحقق عند لقاء الحرية بالإبداع، الإبداع الذي كما يقول أدونيس "يفرض الجديد" والذي هو " اعتراف بأن الماضي ليس كاملا"[4].
هكذا، فالتجربة الكاليغرافية، باعتبارها شكلا مغايرا ومختلفا عن النمط السائد والمألوف، أعادت النظر من خلال مجهودات أصحابها في مفهوم الكتابة الشعرية، وذلك بأن أضافت إلى هذه الكتابة "شيئا" لا علاقة له باللغة فحسب، "شيئا" يضرب عميقا في أنطولوجية "الجسد" ووشم "الذاكرة" وحجم "المادة". ولئن كانت هذه التجربة قد فتحت كوة في الإبداعية العربية والمغربية، فقد ظلت -مع ذلك- بعيدة عن تحقيق تلك القفزة النوعية التي غيبتها الظروف السوسيو-ثقافية... إن الكتابة الكاليغرافية وهي تحاول نقل الشعر المغربي من نمط سائد إلى نمط جديد، ومن طور منجز إلى طور لم ينجز بعد، ظلت حبيسة مطرقة الشعارات المنادية بحرية الإبداع والتحرر من قيوده، وسندان الالتزام بالإبداع وقيوده. ومن هذه الزاوية، فإننا نعتبرها حركة تغيت تقويض ما هو ثابت في الفكر وفي الحياة والإبداع، لكن هيمنة الصوت الواحد فيها -باعتبار الشعر تعبيرا عن إيديولوجيا- وامبرياليته أيضا، فقد أضعفت هذا الامتداد الإشعاعي للشعر الكاليغرافي، فاختزلت بناءاته التأسيسية باسم الحفاظ على وحدة إيديولوجية، أو باسم الحفاظ على الواحدية الإبداعية، مؤدية يذلك إلى ما يسميه أدونيس مرة أخرى "بلاغة الإلغاء"[5].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أدونيس - النظام والكلام- دار الآداب، ص 26
[2] نفس المرجع السابق، ص 124
[3] جوليا كريستيفا- ثورة اللغة الشعرية، ص 63
[4] أدونيس- النظام والكلام، ص63
[5] نفسه.

الخميس، 6 مارس 2008

Three poems of Souad Akouwari

The Beginning of the Talk

Dark clouds covering my horizon
I stand in the middle of the road
The road that has suddenly splited in front of me
O, last tired
How can I cure my broken soul?
And you, the passionate thought, you revolve around me
Like a phantom
Like an infinite space
Like a sick wind
Like darkness
You circle me
You increase like a noise
You increase, so, and I can’t go on...
I can’t resist
O, my weakness and failure
O, my heavy heart
How can I come to full life with half eye?
With a dubious memories

Escaping

When some doors were broken
I departed like a loser horse
In the interlinking lanes
In the coffees crowded by brokers and hypocrites
In color-schemed rooms
With strange features
With downward eyes
With empty skulls
I departed like a foolish wave
I hung on the sail of lost ship
I embraced my tired body
And it takes me the unknown

Modernist in the desert

We talk about many staff that we don’t understand
Modernists in the desert
The last joke in a world full of trivial jokes
Interested in this space like the butterflies of graveyard
But it is the desert
Sands cover everything
Boxthorn
Palm trees
Verses of poetry
Modernists
Interested in modernity
Does modernity born in the desert?
Modernity of palaces
Air conditioning hissing likes a snake
GSMs
Chatting rooms
But it is the desert
Wolf disguised a cute woman

Translated by
Prof: Abderrahmane Bou-Alli
University Mohamed First
Oujda- Morocco

الأحد، 2 مارس 2008

شعرية الإيمان في ديوان بؤرة الروح

شعرية الإيمان في ديوان بؤرة الروح
للشاعرعلي فهيم زيد الكيلاني
[1]
د.عبد الرحمن بوعلي

مدخل:
بؤرة الروح هو ديوان شعري للشاعر الأردني علي فهيم زيد الكيلاني[2]، الذي ولد في مدينة السلط عام 1931 وعاش فيها في بداية حياته يعشقها ويهيم بروابيها ولياليها الساحرة. الأمر الذي فجر فيه مشاعر الصفاء والنقاء العجيبين، وترك في نفسه أثرا ظل يصاحبه ويواكبه إلى أن أفضى به إلى دائرة الشعر والتأمل في قضايا الإنسان المصيرية. ولا عجب أن أن ينتج شاعر كشاعرنا هذا ديوانا يسجل فيه كل ما يعتمل في فكره وعقله من أفانين التأمل، سواء فيما تعلق بقضايا وطنية ظلت إلى الآن تشكل مهامز تدفعه إلى التفكير أو في ما يتعلق بالقضية الكونية الكبرى: قضية الوجود الإنساني والوجود الإلهي وما بينهما من علاقات ووشائج.
ديوان بؤرة الروح كان نتاجا لشاعر مغرم بالتعلق حد التفاني بخالقه سبحانه. لذلك فهو مفعم بالروح الإيمانية التي تصاحب المسلم المؤمن، وتوجهه أينما سار وارتحل. ومن هنا عن لنا أن نوافيه بهذه الدراسة في إطار هدا الملتقى الذي تخصصه رابطة الأدب الإسلامي العالمية للأدب الإسلامي الأردني في المغرب تحت شعار" نحو رؤية أدبية حضارية".
عناصر القراءة الشعرية:
الخطاب الشعري بشكل عام خطاب معقد ومتشابك. وهو خطاب تظهر فيه الفعالية التصويرية بأقصى درجاتها للرؤية التي يتبناها الشاعر. وغاية دراسة المجموعة الشعرية بؤرة الروح للشاعر الأردني علي فهيم زيد الكيلاني هي الوقوف على تجربة شعرية متميزة، وإظهار توليد البنية التصويرية للرؤية الإيمانية التي يتكشف عنها الديوان. هذه الرؤية التي عالم من القيم والمشاعر بتكريسها لمختلف الأصناف التي تحدد الممارسة الشعرية للإدراك الحسي.
ولا شك هذه القراءة التي أبسطها أمامكم ليست إلا محاولة لاستثمار نوع من التحليل الشخصي الذي يستفيد من تكويني المنفتح على القديم والحديث أولا، ومن تجربتي الشخصية الشعرية والوجودية والقرائية، وأكثر من ذلك، فهي قراءة استجابت لرد فعل عن كثرة المقاربات النقدية للنص الشعري التي اتخذت من الحداثة والحداثوية مطية سهلة، دون أن تفيد العملية الإبداعية، بل ودون أن تصل إلى مستوى المقاربات النقدية القديمة والتقليدية التي ظلت وفية للنص الإبداعي.
من هنا، ومن دون أي ادعاء يمكنني أن أطرح هذه القراءة كعمل تطبيقي، لفكرة أن أحاول أن أضع لها الأسس النظرية بغية تحقيق هدف مزدوج:
1- تطوير الممارسة النقدية العربية في مجال شعرية الأدب التي يعيقها أمران:
أ- الارتباط الأعمى بالغرب،
ب- وقلة الاعتماد على الذات الإبداعية.
2- تثوير العملية الإبداعية، بما في ذلك الكتابة الشعرية التي لم تعد في جزء منها تستجيب للظروف والمتغيرات وتبدلات الواقع السوسيو-ثقافي العربي الذي يمتلك من الخصوصيات القوية والمتنوعة ما يجعله يتميز عن واقع الغرب.
إن هذه القراءة يقودها شعور بإخفاقنا حتى على مستوى التعبير عن كياننا وعواطفنا وأحاسيسنا. وهي لذلك، تحاول أن تركز على عنصرين أساسيين:
1- عنصر الشاعر كمبدع وكإنسان، بما يمثله في الكون، أي باعتباره مخلوقا، ثم خالقا للنص، ثم متقبلا للنص.
2- النص الشعري، باعتباره منتوجا أدبيا إنسانيا متضمنا لعنصرين مترابطين أو منفصلين، هما: عنصرا المضمون والشكل. والمضمون والشكل، كما درجت الدراسات النظرية والنقدية، قد يكونان ملتحمين إلى حد الذوبان والتماهي، فيعطيان بنية نصية تكون نتاجا للفاعلية الشعرية من جهة، ومن جهة أخرى تعبيرا عن رؤية متكاملة للعالم، تجسد الأفكار والأحاسيس والعواطف والمقاصد. وحين يصل النص الشعري إلى هذا المستوى من الخلق، يصبح معبرا عن الرؤية التي تتجسد في إطار العصر. ويصبح أيضا نصا محايثا للعصر. بمعنى آخر، هذا هو النص الذي يمكن الالتفات إليه واعتباره نصا بكل ما في الكلمة من معنى.
وفي حالة انتفاء التجانس بين المضمون والشكل، نكون أمام نص فاقد لمعناه، نص لا يمكنه البتة أن يمتلك الفاعلية الشعرية التي هي من أكثر الفاعليات التصاقا بالخلق الأدبي، وبروح الإبداع الحي، وبدواخل الانسان المفعم بالقيم. ولا يمكنه أيضا أن يعبر عن رؤيته للعالم لسبب بسيط وهو افتقاده لأسباب وجوده هو.
وفي مثل هذه الحالات، نكون أمام نصوص لغات، لا مضمون لها، أو أمام مضامين لا لغات لها. وبالمفاهيم اللسنية نكون أمام دوال بدون مدلولات، أو أمام مدلولات فاقدة للدوال. ومثل هذا النوع من النصوص الشعرية وإن كانت تجد المنابر والمطابع التي تروج لها على نطاق واسع، لا يمكن أن تصمد طويلا أمام الذائقة الفنية.
دوائر الشعر: النماذج الشعرية الأربعة:
وإذا تصفحنا ما وصلت إليه النماذج الشعرية العربية التي امتلكت أصولها وقواعدها الشعرية، أي شروط وجودها وانوجاده وموقعها، فإننا نستطيع أن نميز في هذه النماذج الناضجة والمعبرة بين عدة مستويات من التعبير الشعري، قياسا لنماذج الوعي الفني والوجودي الذي يمتح منه شعراؤها باختلاف مشاربهم. ومن بين هذه النماذج يمكن أن نؤكد على أربع منها:
1- الشعر التقليدي العام ويقابله الشعر التقليدي الإيماني.
2- الشعر الحديث العام ويقابله الشعر الحديث الإيماني.
وكأمثلة على ذلك، يمكن أن نستشهد بالنماذج التالية:
1- نموذج الشعر التقليدي العام، ونمثل له بقصيدة يا دجلة الخير[3] للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري التي يقول فيها:
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير، يا أم البساتيـن
حييت سفحك ظمآنا ألوذ بـه لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
2- نموذج الشعر التقليدي العام ، ونمثل له بقصيدة الله والعقل[4] لشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي التي يقول فيها:
إذا طغى العقل على ربــه فالعقل معناه هـو الجهــل
يعترض العقل على خالــق من بعض مصنوعاته العقـل
إن بان فضل العقل في صنعه فصانع العقل لـه الفضــل
عبدتــه لم أدر ما كنـهـه والجزء هل يعرف ما الكل
لم أدر إلا أنه خـالقـــي وأنني لشمســه ظــــل
3- نموذج الشعر الحديث العام، ونمثل له بقصيدة لم يتغير شيء[5] للشاعر العراقي سعدي يوسف، التي يقول فيها:
لم يتغير شيء
ما زال أبي يكدح بين النخل وماء المدرسة،
الناس يقولون...
ولكني أعرف نفسي خيرا حتى من نفسي،
مثلا:
أنا أعرف ما لا تعرفه الصحف المأجورة،
أو أني أعرف أن أتأمل في الشاطئ
أعرف أني أعرف أن أتأمل في ذرات الرمل
وفي ما يقذفه البحر، قواقع أوعشبا
أو أسماكا ميتة،
.........
........
...........
لم يتغير شيء.4- نموذج الشعر الحديث الإيماني ونمثل له بقصيدة صلاة إلى أرض الأفغان[6] للشاعر المغربي حسن الأمراني، التي يقول فيها:
حملوا لك هذا الوباء-الوبال
رشقوك بنصل السموم
وعز عليهم بقاؤك
خارج دائرة الاشتعال.
أنت تشتعلين؟ فمرحى إذن.
ذاك أن اشتعالك درب إلى النور
أذكر إذ أنت عاشقة لاجتياز المسافات
عاشقة للتغرب تحت المطر
حططت الرحال
وعانقت صاحبك العربي.
بباريس في ﴿عروة﴾ لا انفصام لها.
دراسة ديوان ﴿بؤرة الروح﴾:
بعد هذه الملاحظات الأولية التي طرحنا فيها تصورنا عن الشعر العربي، وهو التصور الذي قد يكون شخصيا، وقد يكون قابلا للمناقشة والتصويب، أسمح لنفسي بأن أدرج ديوان بؤرة الروح للشاعر الأردني الكبير علي الكيلاني في جزء كبير منه، إذا تجاوزت القصائد النقدية القادحة في شخصيات شعرية نكن لها كل الاحترام من أمثال محمد مهدي الجواهري الذي أخذ نصيبا لا يستهان به من القدح، ضمن ما أسميته بالنموذج الشعري الإيماني الذي يقوم على أسس عقدية إيمانية واضحة، ويجسد رؤية إيمانية لا تخطئها عين الناقد المتفحص.
وقبل أن ندخل إلى عالم الشاعر علي الكيلاني الإيماني، يجدر بنا أن نعطي ولو لمحة مختزلة عن هذا الديوان، وسنبين من خلال ذلك جليا أن بؤرة الروح يضم قصائد أخرى عديدة لا يمكن إدراجها ضمن الرؤية الإيمانية، ولعل ذلك يبرز بوضوح أن الشاعر، وهو في غفلة عن عالمه الإيماني الذي ينشده، وهو يعيش أيضا دوامة الحياة الدنيا بمتاعبها وإشكالياتها، يجد نفسه وسط الجموع الغفيرة المشكلة من العامة، مثله مثل الذوات الحية الأخرى، مغموسا في طين اليومي ومهاترات اليومي. هذا ما تؤكد عليه القصائد التي رأيت أنها لا تنتمي إلى عالم الرؤية الإيمانية، باندراجها ضمن النموذج الشعري التقليدي العام.
ومن خلال النظرة السريعة، يبدو أن ديوان بؤرة الروح، الصادر في 304 صفحة من القطع الكبير، يتضمن القصائد التي اختار الشاعر أن تكون فيه. فهو يفتتح بمقطع شعري بعنوان من أنا؟، وبإهداء ومقدمة وهي عبارة عن مجموعة من الآراء الفكرية والنقدية تؤكد كلها على أهمية الديوان، وبقصيدة بعنوان من أين أبدأ؟ . هذا الجزء الذي جاء في 26 صفحة، أعتبره مجموعة من العتبات النصية تمارس حوافز تستفز على القراءة، وتشير إلى مرجعية الشاعر الإيمانية، وتغري باكتشاف النسق الشعري في الديوان.
عتبات بؤرة الروح:
نستطيع أن نؤكد أن كل نص له عتبات، حتى وإن كان العمل الأدبي خاليا منها. والعتبات في الكتابة الشعرية لها من الأهمية ما يجعلنا نضيفها إلى الكتابة الشعرية نفسها، ولها من الأهمية أيضا ما يجعلها تشكل المفاتيح والمداخل لقراءة النص الشعري. وفي حالة ديوان بؤرة الروح فمن الجلي أن عتباته كثيرة، وهي من الدلالة بمكان، ما يجعلها تغنينا عن قراءة النصوص ذاتها. ومن الجلي أن لوحة الغلاف والإهداء، والمقطع الشعري ﴿ من أنا؟ ﴾ الموضوع في صدر الديوان، والمقدمة التي قدم بها الشاعر لعمله، كل ذلك من الأهمية بمكان في عملية قراءة النصوص وفهمها وتأويلها. بل إن فهم الديوان أو تعمق محتوياته يمر أولا من فهم وتعمق هذه العتبات.
وبالنسبة لغلاف الكتاب، فالملاحظ أنه يتضمن العنوان بؤرة الروح، وهما كلمتان لا ثالث لهما، مضاف ومضاف إليه. أما اللوحة فهي مكونة من منظرين: منظر أرضي وآخر سماوي، تفصل بينهما عين كبيرة مفتوحة تتوسط الغلاف. والملاحظ أن المنظر الأرضي يميل إلى القتامة والسواد، وأن المنظر السماوي يميل إلى الاحمرار. والملاحظ أيضا أن وجود غيوم أسفلها يميل إلى اللون الأسود، والقسم الأعلى منها يميل إلى الاحمرار. ولا شك أن هذه اللوحة من خلال تكوينها ومكوناتها، تحيلنا إلى جانبين من الحياة: الحياة الدنيا ﴿ المنظر الأرضي ﴾ والحياة الأخرى ﴿ المنظر السماوي ﴾. ولا شك أن لون اللوحة، أو على الأصح لوني اللوحة ﴿الأسود والأحمر﴾ يضيف دلالة أخرى إلى الديوان.
أما العتبة الثانية، فهي المقطع الشعري المفتتح للديوان: من أنا؟ وهو المقطع الذي يقدم الشاعر كما يرى هو نفسه، وكما يمكن أن نراه نحن من زاوية النظر الإيمانية. فهو العبد السيد، وليس السيد العبد، العبد لله والسيد في الحياة، وليس السيد لنفسه والعبد للحياة والشهوات.
أما الإهداء فهو عتبة ثالثة. والشاعر هنا لا يهدي الديوان لشخص ما يكن له المودة والاحترام، ولا لقريب من الأقرباء تربطه به أواصر أو وشائج القربى، ولكنه يهديه "إلى الصفوة من أبناء الأمة، هؤلاء الذين ملأت الحقيقة نفوسهم والحق قلوبهم.. الذين يشقون طريقهم في الظلمة الحالكة..." وهذا معناه أن الشاعر يختص فئة معينة من فئات الناس بإهدائه، وليس الكل، هي فئة المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله تعالى صباح مساء.
أما المقدمة فهي بدورها عتبة رابعة، تؤكد على أهمية الكلمة، والكلمة الطيبة على وجه الخصوص، تلك الكلمة التي ورد فيها قوله تعالى " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة".
والكلمة الطيبة، في نظر الشاعر ومفهومه، هي الكلمة الفاعلة التي تعكس صورة حقيقة الإنسان لا ظاهره، وتكشف ما تنطوي عليه نفسه من مكنوناتها. وهي الكلمة الصادقة، أي الكلمة الموقف، إذا نطق بها الإنسان كان مسؤولا عنها، وإذا سجلها بقلمه ويراعه كانت مسؤولية أعظم. وهي الكلمة الأمانة، وكما قال تعالى:" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان". والكلمة الشعر أبعد التعبير أثرا وأعظمه خطرا.
لا مراء إذن إذا قلنا بعد كل هذا، أن كل ما ييسر لنا الطريق إلى ديوان بؤرة الروح، هو هذه العتبات من الإيمان القوي الذي لا يتزعزع من أثر أي مزعزع. ولا شك أن الشاعر وهو يفتتح بها الديوان، حتى وإن لم يكن من وراء بسطه أمامنا هدف يقصده، فهي تؤشر لنا على دلالة الديوان الإيمانية، وعلى توجه الشاعر الذي لا يرى في الخلق الشعري مجرد تعبير وكفى، وإنما يرى أنه رسالة حملها الإنسان، لينبه ويوجه، وليؤسس وليبني.
بناء ديوان بؤرة الروح:
علاوة على هذه العتبات التي أشرت إليها للتنبيه على أنها من الأهمية بمكان، لأنها تشكل مفتاحا لما سنقرؤه في الديوان، يضم الديوان سبعة أقسام، ولا شك أن الرقم سبعة له من الدلالات ما يجعلنا ننتبه إليها.
أما الأقسام السبعة فقد جاءت كما يلي:
o نفحات إيمانية، وتتشكل من مجموعة من القصائد الإيمانية بامتياز،
o مشاعر إنسانية، وهي الأخرى تتضمن قصائد ذات رؤية إيمانية، وأخرى تنبع من رؤية إنسانية.
o شجون وطنية، وهي قصائد في الوطنية.
o وجدانيات وغزل
o رثاء وتعزية
o نقد وتصويب
o نفثات.
ويتبين من خلال تتبعنا لقصائد هذه الأقسام أنها جاءت قصائد متباينة الأغراض والموضوعات والأشكال، بل ومتباينة في التوجهات والآراء التي يعبر عنها الشاعر. بل والأكثر من ذلك أنها تخلق عند القارئ نوعا من البلبلة والحيرة إزاء بعض التناقضات الفكرية المتعارضة النابعة عن تقييم الشاعر، ولعل مرد ذلك إلى وقوع الشاعر في بعض الأحايين أسيرا لنظرة انفعالية، هي ربما متأتية من مرارة الواقع الذي يعيشه ويعايشه.
وإذا كان هذا هو تقييمنا لقصائد الشاعر في بعض جوانبها، وهو تقييم لا ينقص لا من تجربته الإبداعية أو تجربته الإيمانية التي عبرت عنها قصائده في مجموعها، فإن قصائد القسم الأول من الديوان، نفحات إيمانية، جاءت لتجسد رؤية الشاعر الإيمانية، ولتعبر عن إمكانية خلق بناء شعري إيماني، يهدف إلى غرس الروح الإيمانية في قارئ الشعر العربي. ومن هنا فالذي يهمنا أن ندرسه قبل غيره هو هذا الدفق الإيماني الذي ميز به الشاعر نفسه، وتميزت به قصائده عن قصائد غيره من الشعراء. ولذلك فإضافة إلى قصيدتين من مشاعر إنسانية، يأتي في أولوياتنا، هذا القسم الذي بدا لنا أنه يغمره الإيمان القوي بالعظمة الإلهية المتجسدة في عظمة الكون وخالقه، هذا الإيمان الذي يتكشف من خلاله ضعف الإنسان وهشاشته أمام هذه القوة المتأتية من الله عز وجل.
وتضم قسم نفحات إيمانية القصائد الثلاثة أما الرابعة والخامسة فهي من مشاعر إنسانية:
1- بؤرة الروح، ص 29/ص46.
2- نشوة الروح، ص 47/ص52.
3- هجرة الروح، ص53/ص64.
4- زنزانة الروح، ص88.
5- صدى الروح، ص110.
وفيما يلي لمحة وجيزة عن هذه القصائد:
1- بؤرة الروح: وهي تعبير عن موقف الإنسان الذي يؤمن بالله تعالى، وبحقيقة الوجود المؤدي إلى يوم الحساب.
2- هجرة الروح: وهي تعبير عن موقف الإنسان المؤمن بربه، فيها يتجلى الموقف الإيماني بأجل صوره، وفيها يعبر الشاعر عن نفسه المطمئنة بقدرها، والساعة إلى ملاقاة ربها.
3- نشوة الروح: وهي تعبير عن موقف الشاعر الذي يجد نفسه في موقف من أسمى المواقف الوجودية، ساعيا إلى ربه، مؤديا مناسك العمرة. والشاعر يقف بإجلال وخشوع أمام عظمة وقدسية المكان الذي تجلله أجواء الخشوع والرهبة، وهو يبث لواعجه وأشجانه.
4- زنزانة الروح: وتتشكل من مجموعة من القصائد الإيمانية، هي على التوالي: نداء: وهي كلام الروح السجينة في البدن. أعراض: وهي تعبير عن حدود البدن، وتحقق التوازن بين الروح والبدن الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان. تعرية: وهي كشف عن حقيقة الإنسان. تجلية: وهي تأمل في الله وخلقه لمكونات الإنسان من قلب ونفس وعقل، الذي هو في حقيقته تكريم للإنسان... ثم هناك عناوين أخرى، مثل الإنسان، والطين، وحول، هباء، مهين، وكلها مقاطع حول الإنسان وأحواله المتغيرة التي قبل أن تنتهي بالموت تمر بمراحل قوة، واستقواء، ومحن وتشك.
5- صدى الروح: وهي قصيدة يتحدث فيها الشاعر عن الذات، ذاته هو أولا، ويتأمل فيها حياته وأعماله، ويتأسف فيها عما حصل فيه من تغير وتبدل:
كنت في عشي هزارا أتغنى للحياة
للهدى للنور للحب شجي النغمات
كنت أشدو بالأماني فتهاوت أمنياتي
ولعل أهم ما يوجد في القصيدة هو تلك الأبيات التي خصصها الشاعر للحديث عن تأديته لمناسك الحج، وما انكشف من مشاعر الإيمان وهو يقف ذلك الموقف في ذلك المكان المقدس الطاهر.
" بؤرة الروح" نموذجا للرؤية الإيمانية:
إذا انتقلنا من النظرة الشمولية لديوان بؤرة الروح الذي يحق لنا أن نعتبره من الشعر القوي لغة وأخيلة وصورا وتركيبا، لنتصفح نموذجا دالا من قصائده، وهو يتجسد في نظرنا في قصيدة بؤرة الروح الذي سمي الديوان باسمها، فإننا لا محالة واقفين على أهم ما يتميز به الشاعر علي الكيلاني كشاعر مبدع أولا، وكشاعر يحمل قضية تقض مضجعه وهي قضية الإيمان، وكشاعر يتواصل مع جمهور متذوق للشعر. ولا شك أن كل من سيقرأ بؤرة الروح سيقف على حقيقتها كقصيدة تمثل إحدى الشجرات الشعرية العالية القمة التي تنضاف إلى إلى شجرات الشعر العربي الرصينة والقوية والمتماسكة.هذه حقيقة لا نشك في صدقها. فالقصيدة مبنية وبشكل مترابط على شكل القصائد الأخرى، في شكل قصائد تتالى وهي ترسم بناء شامخا من التشكيل الشعري الأخاذ، والرؤية الإيمانية الصادقة.
وتتكون بؤرة الروح من سبع قصائد هي: جلاء، هيمنة، سراب، الحق، البؤرة، الحقيقة، إنابة.
فجلاء، تعبير عن موقف المتسائل الذي يخضه وجوده في مجتمع يعيش غريبا عن قيمه الأصيلة، فتنطرح عليه تلك الأسئلة الصعبة التي لطالما رددها الفلاسفة والمفكرون، من قبيل: إلى أين السفر؟ وهل لدينا ما يشفع لنا عند ربنا؟ وكيف نمضي خلف من لا يرتجى؟....الخ.
وهيمنة، تعبير عن موقف من يعود إليه وعيه الإيماني في وسط لا إيمان له أوفيه، رغم العلامات المؤكدة والمثبتة لوجود خالق أقوى.
وسراب، تعبير عن موقف من الإنسان الفاقد للوعي الإيماني، الإنسان الذي يجري وراء مصير لا يعلمه.
والحق، تعبير عن موقف من الإنسان الذي يعتبر، لكنه مع ذلك يتبع غيه.
والبؤرة تعبير عن موقف نهاية الإنسان، وهي نهاية الموت المحتوم، والقدر الذي لا مفر منه.
والحقيقة تعبير عن طبيعة الوجود البشري، هذا الوجود السراب الذي يلفنا بغلالاته وحجبه المتكاثفة.
والإنابة تعبير عن أمنية يتعلق بها الشاعر وأي إنسان أيما تعلق، وهي أمنية عودة الإنسان إلى الوعي بذاته وبوجوده وبخالقه.
ولا شك أن هذه القصائد السبع ﴿ ربما قياسا على المعلقات السبع﴾ تصب في مجرى واحد، هو المجرى الإيماني الذي يحتفي به الشاعر أيما احتفاء. وهي بلا شك تمثل "خلاصة التجربة الحياتية والشعرية للشاعر علي الكيلاني، بما يعتمل فيها من أفكار عميقة ومعاني سامية وصور أخاذة وعبر دالة وحكم بليغة، نراها ونحن نطالع تلك البؤرة التي من خلال شفافيتها ورقة جلائها وجلالها وصقلها نرى تلك الروح الإنسانية المعذبة والتي رغم رقتها اللامحدودة تحمل على كتفيها بل على جناحها شعرها من هموم العالم وأحزانه ما تنوء به أشم الجبال"[7].
إن قصيدة بؤرة الروح والقصائد الأخريات التي أشرنا إليها، هي أقصى درجات الحس الإيماني التي يحاول شاعر أن يوزعه على قصائده. ولعل من يقرأ هذه القصيدة وأخواتها من قصائد الديوان الأخرى، يدرك بأنها نغم إيماني متواصل، وفيض من الروح الأمينة على رسالتها في الحياة، الصادقة مع أمتها والفاتحة لآفاق رحبة أمام عودة الوعي للشعر العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نص المداخلة التي ألقيت في ملتقى الأدب الإسلامي الأردني في المغرب تحت شعار: "نحو رؤية أدبية حضارية" من 23 جمادى الأولى إلى 3 جمدى الثانية 1427هـ الموافق لـ 20 يونيو 2006م المنظم من رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
[2] للمزيد من الاطلاع على حياة الشاعر انظر كتاب: حسن علي المبيضين، علي فهيم زيد الكيلاني: حياته وشعره،2005.
[3] محمد مهدي الجوامري،يا دجلة الخير، من كتاب قصائد من الشعر العربي في العراق، إعداد ماجد الحكواتب، مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، مطابع الملك، الكويت 2004 ، ص 127.
[4] أحمد الصافي الصافي النجفي، الشلال دار العلم للملايين، بيروت1962 ، ص37.
[5] سعدي يوسف، لم يتغير شيء، الأعمال الشعرية، الخطوة الخامسة، دار المدى2003، ص 93.
[6] حسن الأمراني، الزمان الجديد، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط 1988، ص85.
[7] علي مصطفى الدلاهمة، ديوان بؤرة الروح، ص 13.

قصيدة سماء أخْرى


سماء أخْرى


-1-
ما بين سماءين منَ الحُلم،
وشمْسين منَ الدفْء،
تعود خديجة للرّقص..
فتُوقظ في شياطين الشِّعْر،
أقول لها:
ها عُمْري
يتمدّد بين جِدارين:
جِدار المنْفى..
وجِدار الموْت الأبدِي..
وها هيَ رائحة الموت المبثوثة..
في الجسد الواقف والمُلْقى،
تتهيّأ للعيد الوطنيِ
لتبدأ في الرقْص
على نغماتِ الرّاي.

-2-
... ... ...
لخديجة أسماءٌ توقظني في الفجر..
وتَخْذُلني في الليل الحالك،
لخديجة أقراط منْ ذهب أوْ ماس..
وأساور منْ حلم،
توقظني في الفجْر خديجة،
تحْضُنني ملْء الصّحْو
وتُقْرِؤني أبياتا ..
من أشعار «الماغوط» الملفوفة بالحُزن.
لخديجة عيْنان من القمْح الأصْفر
تبتسمانِ أمامَ محطة باص
وتتوّجني ملكا..
وأميرا مغدورا
وتقيم مراسيم الدّفن..
-3-
وخديجة حلمﹲ..
داهمني في الليل،
وأيقظني في الفجر ..
وشاكسني
حتّى صارَ مدادا
لقصائد لم أكتبْها،
ومنازل لم أهْجرْها،
ودفاتر ظلت
تسكن شِعْري.
-4-
ما بينَ سماءين من الحلم
وشمسين من الدّفء
تعودُ خديجةُ للرّقص
أقولُ لها:
أين تركت خديجة صُبّارك
أين وضعْت القلم الذّهبي وسافرت
وأين ضفائرُك السّوداء
ونعلك والأصباغُ
وأين قصائدُك المسْكونة بالحزن.
-5-
ما أشهاك خديجة..
حين أضُمُّك بيْنَ الأوراق البيْضاء
ما أشهاكِ خديجة ..
حين أتيهُ..
وأنفُخ فيكِ هوائي..
ما أشهاك خديجة
حين تغارين منَ الشمْس
وتمْتشقين اللون الأزْرق
نافذة للأحلام.
ما أشهاك خديجة..
حين يصير دمي ماء منشورا ...
بين الأوراق الميتة الصفراء،
وحين يُعاكسني مطرﹲ ينزلُ
منْ أبْراج الغيْم العالي،
وأنا أنظر للأعْلى..
أنظر، أنظر، أنظر...
عل سمائي تدْنو منِّي.
ما أشهاك خديجة..
حين أكون وحيدا،
يا أسمى امرأة
سكَنَت قلبي.
السعيدية: مارس 2006

قصيدة إيماءات الولد الدائري


إيماءات الولد الدائري
أو ما يشبه السيرة الذاتية



I
آهٍ، لوْ أنني مكثتُ قليلا قليلاً،
لما أفلتْ شمسي قبل أوانها،
لوْ أنني سافرتُ بعيداً بعيداً،
ومددتُ يدي فوق سمائي
أوْ سمائها،
لكنتُ مثل طائرِ النورسِ الذي
نظرتْ إليه سيدةُ ريتْسوسْ الرهيفةُ والجميلةُ
حين نسيتْ وجهَها
على مقربةٍ من البحرِ العظيمْ،
آه، لوْ أنني أصغيتُ لدقاتِ قلبي العليلْ،
حين أقعدهُ مرضُ القصائدِ والخيالْ،
لصحتُ بأعلى صوتي،
مثلما صاح الماغوطُ
الذي لفظ أنفاسهُ الأخيرةَ بين القصيدةِ والحريقْ:
" أيها السائحُ،
أعطني منظارك المقرّب
علني ألمحُ يداً أو محرمةً
في هذا الكونِ تومئ إليّ ".
II
آهٍ، لوْ أنني تذكرتُ الطفولةَ التي
خرجتْ منْ سانْ مارتانْ، المدينة التي قطفتني،
والأيامَ التي راوغتْ فرحي ويأسي
والقصائدَ التي لم أكتبْ والتي لم تكتب،
والرفاقَ الذين خانوا
والنساءَ اللواتي نزلن إلى البحرِ
أوْ إلى المقبرةْ،
والأصائلَ التي لمْ تكنْ غير حلمٍ غائمٍ،
في سماءٍ وطيئةٍ،
لمددتُ مدادي فوق أوراقِ العشبِ
أوأوراقِ الرمادْ،
ولصرتُ نورسا يحطُّ على
كتفِ سيدةِ ريتسوسْ الرهيفةِ والجميلةْ
ويحدّقُ في الصمتِ والفراغْ.
III
آهٍ.. أيّها الولدُ السعيدْ
آهٍ.. أيّتها الأحداقُ المعشوشبةْ
والمروجُ المذهّبةْ
كمْ مرّ من وقتٍ عليَّ
كمْ مرّ من وقتٍ...
وأنا أنظرُ إلى صفحةِ الماءْ
أرسمُ فوقها قلباً وسهماً
وآنيةً من فضةٍ أو نحاسْ،
آهٍ... أيها الولدُ الذي كانْ...
أيها الطفلُ الذي كانْ...
أيها الوطنُ الذي كانْ...
كم مرّ من صيف
وأنا أختلي بنفسي
أرسمُ دوائرَ فارغة وأصرخُ:
ها قد مرّ صيفﹼ وأتى آخرُ،
وبينهما رحل النهارْ.
IV
سأعلّمُ أبنائي كيف ينسون النهارْ
وكيف يكرهون الشعرَ والشعراءْ
وكيف يسبحون في النهرِ بلا أسرارْ،
وكيف يصيدون الأسماكْ
وكيف يسيرون بتوأدةٍ
فوق الأرضِ الفسيحةِ
وخرائبِ المدنِ العتيقةِ والسحاب،
كأنهمْ ملائكة من قصب،
سأعلمهمْ أبجديةً أخرى،
وأغنيات جميلةً،
وكيف يطيرون بعيدا بعيداً
عن كل ضلالة أو وهم.
V
وكما أشتهي ...
سوف يكتبني البحرُ الطويلْ
وينشرني الموجِ بين السعيديةِ وبُورْ سَايْ
وسانْ مارتانْ
وفي لحظةٍ غافيةٍ
سوف أمشي
على رملها
تحت هذا الغمامْ
سأصعد من سلّمٍ
في السماءٍ البعيدةِ
وحيداً كنورسها
سيدةُ ريتسوسْ الجميلةُ والوحيدةْ،
وحيداً
كما أشتهي.
VI
ولأنني بلا مجدافْ
وبلا بوصلةٍ وبلا أحداقْ
ولأنني أوصدتُ أبوابَ حديقتي
بالمزْلاجِ والصلصالِ والفولاذْ
ولأنني توهمتُ المجدَ آتياً
من جهةٍ في الشمالِ
أو من جهةٍ في الجنوبْ
لا من جهةٍ في الشرقْ
أو منْ خللِ الغمامةِ التي
ظللتني
طويلا طويلاً،
كنتُ مفرداً بصيغةِ الغيابْ،
والآن صرتُ
مثل الغمامةِ التي
تظلل الأرضَ التي تحت أقدامي،
تظللها...
كما ينبغي ..
أنْ تكونَ الظلالْ.
VII
آهٍ... أيتها البجعاتُ الآتيةُ من الشرقْ،
أيتها الغيومُ التي تمرّ على جبلِ الكَرْبُوسْ
أيتها الطرق التي تملأ الفراغْ
بين مزرعةِ بُوتانْ القديمةِ
ومعصرةِ الخمرِ القديمةِ في الركادةْ،
آهٍ .... أيتها السهولُ التي تعبرُ العريشْ
ومقهى المغاربةْ،
أيتها الجبالﹸ التي تفصلﹸ بين البحرِ واليابسةْْ
ليس العمرُ إلا ليلةً تمْْضي
وأخرى تجيءْ،
فليحْيا العمرُ الذي سيأتي..
ولتحْيا الخلوةُ الرّائعةْ.


السعيدية: مارس 200


قصيدة أعدني إلى رحم المحبرة

أعدني إلى رحم المحبرة

1
تقتربُ الساعةُ منْ حافةِ نبضِ القلبِ
وتصغي ..
لدمِ المحبرةِ المنقوعِ بدمعِ الزهرِ.
وحيداً أهربُ منْ أيامي
ووحيداً أدخلُ في جذبةِ هذا البحرِ،
أقولُ وقدْ أوشك أنْ يسقطَ هذا السقفُ العالي:
ها همْ أهلي قدْ سكنوا أوديةً
وأقاموا في الليلِ المجنونِ
وحيدينَ كغزلانٍ يهرشها السيلُ
وها هي صولتهمْ يكسرها البحرُ
وتذريها الريحُ
ويرميها خلف مضاربهمْ..
بين نجودٍ تتنفسُ
منْ فرطِ الحرِّ هسيساً
من ريحِ اليحمومْ.
ها همْ أهلي...
يقتربون منَ الشجرِ الوارفِ
أولهمْ حلمّ ورحيقُ الزهرِ
وآخرهمْ ألقّ كاسرْ،
ها همْ أهلي
يقتربون منَ الساعةِ
كالشفقِ الأحمرِ
في ليلٍ عابرْ.
2
تقتربُ الساعةُ من حافةِ نبضِ القلبِِ
قليلاً ثم قليلاً ثم قليلاً
حتى توشك أنْ تسقطَ في الغيم،
فيهوي حائطها فوق سياجٍ
أبدأ في عدِ الأفراحِ لأحصيها
كيْ أعبرَ هذا التيهَ
كما يعبرُ عمري صحراءَ الشرقِ.
يداخلني شوق يأتيني
من خللِ الأبوابِ الموصودةِ
ها إني أفتحُ جرحي
لكلابِ الصيدِ،
وأغلقُ بابَ القلبِ
على مهلٍ أغلقُ بابَ القلبِ
وحيداً ..
كدمٍ أوغلَ في الإشراقِ
على إسفلتٍ منقوعٍ بالماءْ.
3
تقتربُ الساعةُ منْ حافةِ نبضِ القلبِ
أقولُ تبارك هذا الوقتُ النازلُ منْ ملكوتِ الكونِ
تبارك هذا الخلقُ
تبارك هذا الخالقُ منْ أعطاني هبةً
وتنزلَ منْ علياءِ الروحِ ليسكنَ فيَّ النورَ.
أمامي ترقدُ أزهار
وأمامي يعبرُ بحر خلجانَ الشوقِ
أتيهُ كما العابرِ فوق الجرحِ.
أعاودُ نسجَ خيوطي
وأرتبُ أوراقي علّ الريحَ تمرُّ بعيداً عني.
آهٍ يا قلبُ تمهلْ
حتى يعبرَ عمري هذا الليلَ المجنونَ
ويملأ بالحبِّ تجاعيدَ الزمنِ الفاني
يا قلبُ تريثْ
حتى تقتربَ الساعةُ
منْ حافةِ نبضِ القلبِ
فأملأ صدري بعبيرِ الوردِ
ورائحةِ الجنةِ والوقتْ.
4
تقتربُ الساعةُ
منْ حافةِ نبضِ القلبِ
أقولُ ..
تضاءلَ هذا العالمُ حولي
وتجبرَ هذا الليلُ المحمومُ
وهذا السقفُ المكلومُ
وهذا الجسدُ الفاني
وعلتْ ريح
في أروقةِ الوقتِ الغرثى
وبكتْ محبرتي منْ فرطِ الحيرةِ والنسيانْ.
5
آهٍ، كمْ أقلقني غيم سافر في أقصى الصحراءِ
وكمْ أخجلني صمت آخى بين الزهرةِ والماءِ
وكمْ أوهمني حجر عانق زهرتهُ ثمّ بكى
منْ فرطِ الدهشةِ والعشقِ.
وكمْ آزرني سدر في الفيفاءِ
وطير رتقَ بالخيطِ
ثقوبَ البابِ الموصدِ خلفي.
آه، كمْ راقصني حلم
بالتيهِ الوارفِ في أروقةِ الوقتِ
وشاكسني ضوء
يأتي منْ خلفِ أساورَ منْ ثلجٍ
وأباريقَ منَ الدفلى.
كمْ عانقني..
شجر وظلال ورمادْ
وغيوم تجري في ألقِ الكونِ
وكمْ صاحبني عشق مجنون
وصهيل..
وعويل ومواءْ.
6
آهٍ يا حجرَ الوصلِ ويا حجرَ الأحبابِ
ويا حجرَ الوهمِ ويا حجرَ الأصحابِ
ويا حجرَ الحبِّ ويا حجرَ الأعتابِ
أعدني ....
لدمِ المحبرةِ المنقوعِ بدمعِ الحبِّ
أعدني ..
للفرحِ الدائمِ والحبِّ
أعدني ..
للعشبِ النابتِ في عتباتِ البابِ
ولنافدةٍ أوصدها البحرُ أمامي،
ولمقبرةِ الروحِ..
أعدني يا حجرَ الوصلِ
أعدني ...
لدمِ المحبرةِ التائهِ والمجنونْ.
السعيدية دجنبر 2006

قصيدة إسطرلاب الغيمةِ والوقت

إسطرلاب الغيمةِ والوقت
" يا ملكا يبكي على عتبات الشعر:
هل نغم إزميله دمه"
م.ع.مطر

-1-
كالغيمةِ حين تُلاحقُها الرّيح
ويُضْحكُها الوقْت
ويجرفُها التيّار،
تعودُ خديجة
منهَكةً من سفر.
أنهض نحْو أريكتِها الزّرقاء،
ثمّ أوسوِس في نفْسي:
ألهذا الحدِّ يصيرُ الدّم ماءً
والدمعُ تراباً،
وتصير خديجة ذكرى،
ألهذا الحدّ يموت النبع،
فيصبح صحْراءﹶ
ويُمسي أرضاً
لا تُنبتُ غيرَ الريحْ،
ألهذا الحدّ تفرُّ خديجة
منْ ألقِ الصّبحﹺ
فتدخلُ في الظلمةِ ..
عارية
إلا منْ اسمٍ لا يعني شيئاً،
اسمٍ كانَ كبيراً..
ثمَّ تضاءلَ
ثمَّ هوى كالنّجمِ
على بُركانِ البيْداء.
-2-
كالغيمةِ حينَ تغادرُها الزّرقة
أوْ كالنّبتةِ حينَ تموتﹾ
تمْضي امرأةُ المرآةِ
نحو سُدوفِ الليلِ،
تمْضي نحْو سُدوفِ الحُزنِ،
فأغرقُ في ضحكاتي
كالطفلِ المُتخَلِّصِ منْ سوْطِ أبيهْ
أوْ كالنّملةِ ...
حين تمُجُّ العتْمةَ والحزنَ
وأوراقَ العُشبِ الصّفراء،
وتقرِّرُ أنْ ترسمَ سطراً
يُنْهي كلَّ تجاعيدِ الوجْهِ
المقبورةِ في الرّيح.
-3-
كالغيمةِ حين يُلامسها القبر
أوْ حين يُجافيها الوقت
ويَسكنُها الصمت
تعودُ خديجةُ عارية
إلا منْ أحلامٍ،
وصليلِ سيوف قاطعة
ورُؤى كابية
وأباريقَ مهشّمة
وحريقٍ آخرْ
بين الحُرقةِ
والحدقات.
-4-
آهٍ.. لم يبقَ خديجةُ ..
في هذا القلبﹺ
سوى نبض
يتسارعُ كالوقتﹺ،
إلى سدْرةِ منْ أهْوى،
لمْ يبقَ سوى غيم
يتبخّرُ فوقَ سُدوفِ الرّوحﹺ
وتعْريشِ الأطيارﹾ،
لمْ يبقَ سوى ضوْءٍ
يتوارى خلفَ الغيْمةِ،
ثمَّ يصيرُ مداداً
لقصائدَ كانتْ..
ولأخْرى ستجيءْ.
-5-
آهٍ .. لمْ يبقَ خديجةُ
منْ ولَه في القلبِ،
ولمْ يبقَ سوى حجر.
هذا حجري لبقيةِ عُمْري
يعلو فوقَ تباشيرِ الوقتِ،
وفوقَ تلاويحِ الريحْ
في غابةِ منْ أحرقَ
أطيافَ البحْرِ الزّرقاءْ.
هذا حجري ،
أحملهُ للرّيحﹺ
وأرْفعهُ ... لهتافِ الأسلافْ.
السعيدية: دجنبر 2006



علي لغزيوي: قراءة في كتاب "نظريات القراءة .."

نظريات القراءة
ترجمة د. عبد الرحمن بوعلي
عرض: د. علي لغزيوي

"نظريات القراءة" عنوان لكتاب صغير يضم مجموعة من النصوص النقدية المعاصرة تمثل مختلف الاتجاهات النقدية السائدة الآن، وهي لمؤلفين عديدين اختارها وترجمها الدكتور عبد الرحمن بوعلي أستاذ النقد الحديث بكلية الآداب جامعة محمد الأول، وجدة المغرب، ووضع لها هذا العنوان الجامع سعيا منه لتقديم نظريات معاصرة في النقد الأدبي، انطلاقا من أعمال مجموعة من النقاد الغربيين الذين ينتمون إلى عدة جامعات أجنبية. وهكذا جاءت الدراسة الأولى بعنوان: من أين نبدأ؟ وهي للناقد رولان بارت ( درجة الصفر في الكتابة) .
وجاء النص الثاني تحت عنوان ( القراءة كبناء) وهو للناقد تزفيتان تودوروف من كتابه ( شعرية النثر).
أما النص الثالث فهو لريمون ماهيو بعنوان (القراءة السوسيو-ثقافية)، والرابع لفردناند هالين وفرانك شويرويجن تحت عنوان ( من الهرمنيوطيقا إلى التفكيكية)، والخامس لميشال أوتن بعنوان (سيميولوجية القراءة) والسادس والأخير لفرانك شويرويجن بعنوان ( نظريات التلقي).
والنصوص الأربعة الأخيرة من كتاب لعدة مؤلفين تحت عنوان Méthodes du texte:Introduction aux études littéraires وقد صدر بباريس العام 1987.
وقد اختار المترجم هذه النصوص باعتباره في نظره مفاتيح أولية لمعرفة المناهج المعاصرة الأكثر تأثيرا فينا، والأوسع حضورا في ساحة النقد العربي من جهة، ولكونها من جهة ثانية تعالج الإشكالية الأساسية التي ينبغي أن يواجهها النقد، وتتعلق بتشكل مناهج القراءة في جانبيها النظري والتطبيقي، وهو يرى أن حاجتنا ماسة إلى استيعاب المناهج النقدية المعاصرة، ولكن ليس من أجل تقمصها وتطبيقها كما تم إنجازها، بل عن طريق نقدها ومساءلتها وتبين مدى قدرتها على مساءلة النص العربي، مع الوعي بالاختلاف والائتلاف. وبهذه الشروط يرى أنه يمكن لهذه النصوص أن تضيف إلى ممارستنا النقدية ما يبدو أننا في حاجة إليه في القراءة باعتبار أنها شكل من أشكال المنهج من ناحية وبوصفها منهجية تتيح أكبر قدر من الحرية للقارئ في اشتغاله بالنص الأدبي، وبذلك تنعدم الحدود بين المنهج والقراءة.
ولتحقيق هذا الهدف، فقد آثر المترجم أن يرتب النصوص التي اختارها وكثير منها يقدم للقارئ العربي في لغته لأول مرة في الغالب فجعلها بترتيبه المشار إليه آنفا تقدم صورة عن النقد المعاصر على اختلاف اتجاهاته السائدة، وما يطبع المشهد النقدي المعاصر من تنوع وتطور، وكأن حلقات المشهد سلسلة متصلة يأخذ بعضها بعرى بعض، بدءا من البنيوية مرورا بالسوسيولوجية، والهرمينوطيقا، والتفكيكية، والسوسيولوجيا، ووصولا إلى نظريات التلقي كما صاغها وولفجانج إيزر وهانس روبرت ياوس وإيكو وغيرهم من منظري جمالية التلقي في النقد الغربي.
ولا شك أن قارئ هذه النصوص النقدية على اختلاف اتجاهاتها ومكوناته يستطيع أن يلاحظ العناصر المشتركة بين المناهج التي يتبناه كل منها، وليس ذلك كما يؤكده المترجم إلا لأن " الناقد الغربي في بنائه لمنهجه لا يستطيع أن يتخلى عن تراثه، أو عن العناصر المشرقة في هذا التراث.. وهو مثلما لا يستطيع التخلي عن تراثه، لا يستطيع أن يتجاهل مساهمات معاصريه، مما يؤدي إلى الوصول إلى نتائج هامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نظريات القراءة صدر عن دار نشر الجسور- وجدة- المغرب في 90 صفحة- العام 1995.

د. علي لغزيوي

محمد بهجاجي: " قراءات: عبد الرحمن بوعلي: في نقد المناهج المعاصرة"

قراءات: عبد الرحمن بوعلي: في نقد المناهج المعاصرة
محمد بهجاجي


صدر للشاعر والباحث عبد الرحمن بوعلي كتاب جديد بعنوان "في نقد المناهج المعاصرة: 1- البنيوية التكوينية"، يسعى إلى إغناء المعرفة النقدية المتداولة في بلادنا، انطلاقا من تقديم منهجي للبنيوية التكوينية باعتبارها واحدة من أبرز الطرائق النقدية السوسيولوجية كما مارسها كل من لوكاش، غولدمان، جاك لينهارد، بيير زيما، وميشيل زيرافا.
ضمن هذا السياق يعود بوعلي إلى اللحظات الأولى التي تشكلت فيها علاقات الأدب بالوسط الاجتماعي، وإلى الروافد الثلاثة التي يرى أنها "ساهمت بقسط كبير في نشأة النقد السوسيولوجي"، وهي:
- المادية التاريخية، وعلماء الاجتماع الألمان، ومدرسة فرانكفورت السوسيولوجية.
بعد ذلك يقدم المؤلف فكرة عن السوسيولوجيا التجريبية ويمثلها بشكل أساسي روبير إسكاربيت، ثم يبلور بشكل موسع القضايا الأربع التي تحاول البنيوية التكوينية الإجابة عنها:
1- قضية البنية الدالة المتماسكة.
2- إدراج البنية في إطار أيديولوجي.
3- فهم الأيديولوجيا والطبقة أو الفئة الاجتماعية داخل المجتمع.
4- البحث عن وظيفة الطبقة أو الفئة الاجتماعية داخل المجتمع.
يستعرض الكاتب المفاهيم المركزية في المنهج اعتمادا على مفهوم البنية الدلالية، مفهوم الرؤية للعالم، إضافة إلى مفهومي الفهم والتفسير، ومفهوم التماثل، مع إشارة المؤلف إلى أن هناك مفاهيم أخرى لا يعني عدم ذكرها "أن لا فائدة ترجى من ورائها".
في جانب آخر من الكتاب يستحضر بوعلي أشكال حضور المنهج السوسيولوجي في الكتابات النقدية العربية انطلاقا من خمسة كتب-نماذج، ويعلق-بإيجاز- على طبيعة هذا الحضور وعلى ما اعتبره جوانب نقص أو خلط أو تعثر في "المشروع" البنيوي التكويني العربي، من ذلك ما لاحظه بخصوص كتاب "التحليل الاجتماعي للأدب" للسيد ياسين الذي يرى المؤلف أنه لم يدرك الإطار النظري والتاريخي للسوسيولوجيا، فخلط بين "منهج التحليل السوسيولوجي والمنهج الجديد لرولان بارت"، كما خلط "بين المنهجين الرئيسيين في التحليل السوسيولوجي: المنهج السوسيولوجي التجريبي... والمنهج السوسيولوجي الجدلي.." كما لاحظ المؤلف أن كتاب "سوسيولوجيا النقد العربي الحديث" لغالي شكري هو "عبارة عن تاريخ وتأملات في النقد العربي الحديث"، ومن ثم، يبدو هذا الكتاب في رأيه "بعيدا كل البعد عن أي منهج سوسيولوجي".
أما بخصوص النماذج المغربية: كتاب "الرواية والأيديولوجا في المغرب العربي" 1981 لسعيد علوش، وكتاب "ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب:مقاربة بنيوية تكوينية 1979" لمحمد بنيس، وكتاب "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي 1985 لحيد الحمداني، وهذه المؤلفات كلها أعدت أصلا لنيل دبلوم الدراسات العليا، فيرى فيها المؤلف دراسات قيمة أثرت البحث الجامعي المغربي وأشرعت لخطابنا النقدي آفاق متجددة، لكنه يلاحظ أن تطبيقات المنهج في بعض هذه الكتب قد شابتها آثار نقص، إما بسبب عدم الاستيعاب العام للمفاهيم أو سوء تدبير للإطار الكامل للبنيوية التكوينية أو أحيانا بسبب ضعف الترجمة.
يسعى هذا الكتاب الجديد للباحث عبد الرحمن بوعلي إلى إعادة النظر في جزء من الخطاب النقدي العربي، وهو كما يفهم من العنوان، خطوة أولى باتجاه تتبع أشكال حضور المناهج الأخرى في هذا الخطاب. وقد اعتمدت الفكرة على منحى بيداغوجي واضح من أجل تقريب الأفكار بالصيغة التي تضمن تداولها على نحو واسع.

محمد بهجاجي
جريدة الاتحاد الاشتراكي

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل 1

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل( 1)
بقلم: د.عبد الرحمن بوعلي


"إن ما يؤدي إلى الشعر هو طريق التجاوز"
إيمي سيزار

علينا أن نعترف منذ البداية أن محاولة تقريب المشهد الشعري في المغرب هي من الأمور التي لا يمكن الحسم فيها، ذلك أنها مهمة تقوم على أساس التراكمات الإبداعية والنقدية. وعلينا أن نقول إن هذه المحاولة بالرغم من أنها تصدر عن موقف شخصي، تحاول أن تشخص الواقع الشعري بالمغرب الزاخر بالتجارب الشعرية الجديدة، والمسكون بالأسئلة المقلقة والحادة. فهي إذن محاولة تتغيى إبراز الصور في مختلف مظاهرها وتجلياتها. وسنعمد في ذلك على مفهوم أساسي ومحوري هو مفهوم "الأجيال".
1- في تاريخ المشهد الشعري:
عندما تأسست حركة الشعر الحديث أو الحر في المشرق العربي، على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وغيرهم، كان لزاما عليها كي تنجح، أن توجد امتدادا لها في كل الأطراف العربية، وكان المغرب أحد هذه الأطراف التي استقبلت هذه الحركة بابتهاج شديد. ولذلك فقد تضافرت كل العوامل في بداية الاستقلال -1956- وقبله بقليل، لكي تدفع النخبة المثقفة للخروج من النموذج التقليدي والرومانسي، كما أن إرادة هذه النخبة في تجريب أساليب الكتابة وتطويعها كانت أكبر من كل المثبطات والإكراهات التي أحاطت بها في ظروف لم تكن تسمح بحرية التعبير. وقد كان ذلك في سنوات الخمسينات، حين كانت المقاومة الشعبية تصفي حساباتها مع الاستعمار الأجنبي، وحين كانت طلائع المثقفين تشارك في تأسيس الثقافة الوطنية.
ولعل حركة شعرية كهذه، في قوتها وعنفوانها، وفي مشاهده الظاهرة والخفية، ما كان لها أن تصير حركة بهذا الحجم إلا وهي تجتذب إليها المريدين تلو المريدين، فكان انتظامها في أجيال متتالية سببا في امتدادها ونجاحها. وربما جاز لنا أن نسلك مساربها ومنعرجاتها، بل وإخفاقاتها ونجاحاتها، في الأجيال التي تعارف عليها النقاد، والتي أصبحت تشكل اليوم المشهد الشعري العام في المغرب.وهي جيل الرواد الذي عرف بجيل الستينات، وجيل الوسط الذي أطلق عليه جيل السبعينات، وأخيرا الجيل الجديد أو جيل الشباب والذي أطلق عليه جيل التسعينات.
ومن الناحية النظرية يقوم هذا المشهد الشعري على تنامي النماذج الشعرية في خط طولي، وكأن هذا التنامي لا يتحقق عبر تراكب وتفاعل التجارب، وقد يخيل للباحث أن القطيعة هي قاسمه المشترك وأقنومه الظاهر، وأن السلسلة ما تفتأ تتواتر حتى يظهر شيء جديد يعكر صفو التواتر ويقصف الامتداد.
ولفحص هذا المظهر الذي أشرنا إليه ينبغي أن نقوم باستحضار هذه الأجيال وبتتبع الخصوصيات الموضوعية لكل جيل وسماته الأكثر بروزا.
ولتكن البداية من جيل الرواد.
2- جيل الرواد أو جيل الستينات:
تنفتح دورة المشهد الشعري بالمغرب بجيل الستينات، وهو الجيل الذي كان يوم مقام جيل الرواد في المشرق العربي، من أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وغيرهم.. ويتشكل هذا الجيل من مجموعة من الشعراء أبرزهم أحمد المجاطي المعداوي، ومحمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني... وجميعهم بدأوا الكتابة الشعرية والنشر في الجرائد والمجلات باستيحاء. وواصلوها خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات، وبعضهم لا زال يواصلها حتى اليوم كما هو الحال بالنسبة للشاعر محمد السرغيني....
ويشكل الشاعر أحمد المجاطي - المعداوي أحد أعمدة القصيدة المغربية الحديثة، بل ويشكل أحد الذين يعود إليهم الفضل في ترسيخها ترسيخا فنيا عاليا، وفي إثارة النقاش حول راهنها وراهن القصيدة العربية الحديثة، ذلك أنه كان طرفا في النقاش الذي دار بينه وبين بعض نقادها ومنظريها الكثيرين، وأطروحته حول "ازمة الحداثة" [1] خير دليل على ذلك. أما فيما يتعلق بصراعه الثقافي مع محمد بنيس [2] فيعود إلى اختلاف في وجهات نظرهما حول الشعر، وفي تقييم كل منهما للمسألة الشعرية في المغرب، فبينما كان بنيس يدعو إلى الخروج الكلي عن القصيدة- النموذج، القصيدة السيابية كما ترسخت، ساند المجاطي فكرة ارتباط الشعر العربي بالتراث. وأما فيما يتعلق بمشاركة المجاطي في النقاش العام حول إشكالية الحداثة الشعرية العربية فلا شك أن كتابه الصادر حديثا تحت عنوان "أزمة الحداثة في القصيدة العربية" لخير دليل على انخراط هذا الشاعر في تحليل الوضع الشعري العربي، وعلى تحسسه اليقظ لمشكلاته وعلى امتلاكه للأداة النقدية وللرؤية الموضوعية. وهو بذلك شكل ظاهرة من أهم دلالاتها أن الشاعر الحديث لا يمكن أن تتغلب عليه أية يقينية مهما بلغت قوتها.
وفي الميدان الشعري، أي في ميدان تجربته الشعرية، برز الشاعر أحمد المجاطي شاعرا متميز الأسلوب، صافي اللغة، متمكنا من الكتابة والهندسة الشعرية، وهو الانطباع الذي يمنحه ديوانه الوحيد "الفروسية" الذي ظهر بعد أكثر من ربع قرن من خوضه لغمار التجربة الشعرية. والذي اعتبر ولا يزال، بالرغم من كونه لم يشمل إلا قصائد قليلة من أعماله، أحد أهم الأعمال الشعرية، ليس على صعيد التجربة المغربية، بل على صعيد التجربة الشعرية في العالم العربي. ولعل رصانة تجربة الشاعر أحمد المجاطي-المعداوي التي ترسخت وتكرست في هذا الديوان، هي التي جعلت ناقدا من وزن محيي الدين صبحي يقول فيه:" لقد ظفر الشعر العربي الحديث من ديوان المجاطي بحلقة جديدة في السلسلة الذهبية التي شكلها جيل الرواد في الخمسينات، فبعد السياب والبياتي وخليل حاوي يتبوأ الشاعر أحمد المجاطي مكانته بين رواد الشعر العربي الحديث الذين طوروا الأداء واللغة الشعريين بالعربية. أما بالنسبة لشعراء المغرب العربي في السبعينات والثمانينات، بين القاهرة والجزائر فهو رأس الطليعة التي تستحق لقب شاعر"[3] .
أما السرغيني، فلا شك أن موقعه الاعتباري كشاعر داخل الخريطة الشعرية المغربية، وريادته المتواصلة والمؤكدة التي لا لبس فيها، تجعلانه هو الآخر، واحدا من الذين كانت بصمتهم واضحة. ولا شك أن قامته الشعرية التي تسامت وقامات شعراء القصيدة العربية الحديثة الكبار، بل ومنحتع فرادته التي لا يشك أحد فيها، جعلته من الذين طبعوا المشهد الشعري في المغرب بطابعه الخاص. ومن دون شك فإن ديوانه "وسيكون إحراق أسمائه الآتية" الذي جاء متؤخرا من حيث الزمن، مثل ديوان المجاطي السابق الذكر، وكذلك دواوينه التالية له "جبل قاف" و"الكائن السبئي" و"من فعل هذا بجماجمكم؟"، إن هي إلا أدلة قاطعة على كون السرغيني من الأسماء التي شكلت علامة بارزة في الشعر المغربي الحديث.
ويعتبر محمد الخمار الكنوني ثالث الشعراء المنتمين إلى فترة الستينات، وهو الشاعر الذي رغم ثقافته التراثية ساهم في وضع أسس القصيدة المغربية. فديوانه الوحيد "رماد هسبريس" يمكن النظر إليه كعلامة مضيئة في تاريخ الشعر المغربي والعربي، ذلك أن الملمح الغالب عليه متانة اللغة، ووضوح المعنى وإحكام البناء. ولأن الشاعر محمد الخمار الكنوني من الشعراء القلائل القابضين على نار الشعر وجذوة الإبداع، فقد شكلت قصائده نماذج هامة. ولعلنا لن تخطيء إن نصوصه ونصوص محمد السرغيني وأحمد المجاطي، حتى وإن لم يلتفت إليها النقاد كثيرا، نصوص تشهد على تاريخيتها وتشهد عليها جسارتها وجماليتها.
ولعل أهم ما يمتاز به هؤلاء الشعراء كونهم عبروا تعبيرا دقبقا على مرحلة عاشوها، وأنهم عكسوا تصوراتهم الفكرية والجمالية في أشكال تعبيرية قدر لها أن تصبح نماذج مقترنة بأصحابها دالة عليهم، وبتعبير آخر فإنهم شكلوا إلى جانب شعراء آخرين من أمثال عبد الكريم الطبال، ومحمد علي الهواري، ومحمد الميموني، وأحمد صبري، وغيرهم.. الثالوث المؤسس لحركة الشعر الحديث في المغرب، وإليهم يرجع الفضل في ترسيخ هذه الحركة الشعرية، بل ويعتبرون أساتذة للأجيال التالية لهم.
وإذا كان البعض من النقاد والمنظرين لحركة الشعر الحديث في المغرب قد أجهزوا على تراث هذا الثالوث لأسباب قد نعرف بعضها، فإن ذلك لم ينل مما قدموه للحركة الشعرية في المغرب. ولئن قيل في هذا الصدد إن رؤيتهم كانت رهينة "السقوط و الانتظار"[4] وذلك إشارة إلى محدودية أفقهم، فهل معنى ذلك أن في الإمكان إلغاء تجربتهم؟ لنقل إن الرؤية في شعر هؤلاء هي رؤية "سقوط وانتظار"، أو لنقل إنها رؤية "كارثية" على حد تعبير الناقد محيي الدين صبحي [5] ، أو لنقل إنها رؤية مهزومة نالت من هزيمة حزيرا/يونيو 67 نصيبها واكتوى أصحابها بنارها، فما الذي يغير من طبيعة شعرهم المتميز والحارق؟ ثم أليسوا هم من الجيل الذي فتح عينيه على بنادق المستعمر وعلى ضياع فلسطين وعلى انسداد الأفق وعلى الهزائم المتتالية في عصرنا الحديث؟ أليسوا هم الجيل الذي خرج للتو من إرهاصات نهضة مكسورة ومنكسرة ومن بدايات استيقاظ ناقص لم تمهله تطورات العصر ليكتمل؟
إن الذي لا شك فيه أن هؤلاء الشعراء الكبار ليسوا أشباحا ولا ملائكة. إنهم بشر عبروا عن طموح الإنسان إلى أن يخرج من النفق المسدود، ولم تكن رؤيتهم هذه إلا تجسيدا لهمومهم وانعكاسا لمعيشهم، وبذلك أقاموا الحجة على أن الشعر منبعه الوجود، وأن الإنسان -العادي والمبدع- إنما هو نتاج لهذا الوجود الموجود، وأن الحداثة الشعرية إن كان لها من معنى فهو أن تعبر عن عصرها الموتور والخائب.
ومجمل القول أن مرحلة الستينات كانت مرحلة تأسيسية هامة، فتحت للتجديد آفاقا ورؤى وتطلعات، سيتحمل مسؤولية مواصلتها وتحقيقها الجيل التالي، وهو جيل آخر من الشعراء أطلقت عليه تسمية جيل السبعينات.
يتبع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، دار الآفاق الجديدة، 1993.
[2] محمد بنيس، "راهن الشعر المغربي" مجلة الفكر الديمقراطي العدد 2، 1988، ص 120 .
[3] محيي الدين صبحي، الدراسة الملحقة بالديوان، ص 170.
[4] محمد بنيس، "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، دار العودة، 1989.
[5] محيي الدين صبحي، المرجع السابق،ص 169.

جميل داري: "وردة الزمن المستحيل للشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي"

ماذا نعرف عن الأدب المغربي
أو وردة الزمن المستحيل للشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي
جميل داري

استوليت على هذا العنوان "ماذا نعرف عن الأدب المغربي" من الصديق الشاعر حسان عزت، فقد ظللت محتفظا بمقالة له في أحد أعداد تشرين عام 1987 وهو يعرض فيها العدد 25/ 1987 من مجلة الكرمل العدد الخاص بالأدب المغربي.
لقد أكد الصديق حسان بأن ما نعرفه عن الأدب المغربي "لا يعدو شيئا مبعثرا هنا وهناك، في الرواية وكتب الفكر والأعمال الشعرية ومقالات منشورة في الصحافة ولأسماء معينة.." أنا شخصيا وجدت متعة حقيقية في ذلك العود الذي أعود إليه بين فترة وأخرى، ومن الأسماء الشعرية المغربية في ذلك العدد من الكرمل الشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي الذي نشرت له قصيدة بعنوان "مرثية لمجنون سيناء" وهي مهداة إلى روح الشهيد المصري "سليمان خاطر". قرأت القصيدة ورأيتها قريبة جدا من مزاجي، فهي مكتوبة بلغة سلسة وتفعيلة "المتقارب" المطواعة وبعفوية نادرة، وهذا المقطع الأول الذي يعطي صورة مكثفة عن القصيدة الطويلة كلها:
"هو البحر أيقظ فيك الرصاص
وأيقظ فيك التراب
وأيقظ فيك النخيل
هو البحر أشعل حرب البسوس
وأشعل فيك الذي يشتهيه "الخليل"
دمي يا دم الشهداء النبيل
دمي يا دم الفقراء النبيل"
مؤخرا بصدفة جميلة استطعت مراسلة هذا الشاعر الذي يعمل بالتدريس دكتورا في جامعة وجدة بالمغرب، فقد قرأت له مقالة نقدية ممتعة عن الحداثة الشعرية في أحد أعداد مجلة "الوحدة"، ورأيت أن باعه في النقد والبحث طويل كما هو باعه في الشعر، فشعره ضارب بجذوره في تربة الأصالة، ممتدة أغصانه الوارفة في سماء الحداثة والإبداع.
لقد أهداني أحد دواوينه المطبوعة خريف 1984 وعنوانه "وردة للزمن المستحيل"، وسرعان ما التهمت سطوره، وشعرت أن لا فواصل بين شعرنا المشرقي والشعر المغربي من حيث الجوهر، وإن كان ثمة فروق فهي شكلية لا تقدم ولا تؤخر، فالهموم الإنسانية واحدة: الحب، العدالة، الحرية..الخ. ومن هنا كان استشهاد الشاعر الدكتور عبد الرحمن بوعلي بوالت وايتمان:
"أي صرخات للنسوة اللواتي يحسسن بالمخاض، فيسرعن إلى البيت ليضعن المواليد،
أي نداء حي دفين ينبض الآن..دائما؟"
إن اللحظة الشعرية ترخي بظلالها الوارفة على قصائد المجموعة، ويبدو الشاعر مسكونا بهاجس الشعر، غارقا في خضمه حتى الأعماق. جاء في قصيدة " أول الجمرات":
غارق أيها البدوي
وغارقة فيك رعشتنا
غارق فيك وجه اندهاش الصباح
والكتاب الذي بيني وبينك
أودعته المستحيل
ومزقته
وكتبت على صفحة القلب
ما لا يقال
كيف أدركه الآن أو كيف يدركني
بعد أن صرت كهلا
وصرت بلا مطر أو دليل
كيف أهجره أو أواريه
أو كيف أتبعه نحو مرفأه
وكلانا قتيل.. قتيل...؟"
إنه هنا في هذه القصيدة كما في سواها يتمتع بحس عميق تجاه الحياة، معبرا عن هذا الإحساس بالفن الذي يكاد يكون الفرح الحقيقي الوحيد وسط تعاسة العالم وخرابه و"مستنقعاته الضوئية"، حيث " لا مطر.. ولا دليل؟ تحت سماء مكفهرة بخيلة. أما الدليل فيصبح فيه قولي ذات يوم موغل في الكآبة والغثيان: "كم دليلا سيخذلنا قبل أن نصلا؟"
ثمة تيه.. ومدن ملح..وقراصنة ومحاولات تترى لاغتصاب القصيدة وافتراع بكارتها ثم ذبحها لتغدو من شهداء التاريخ المجهولين، غير أن الشعر على الرغم من كل شيء عصي على الموت، يتمتع بقدرة هائلة على البقاء..على مواجهة فيوض التفاهة والخواء:
"يتيه الصحاب على بعد مترين
من جثتي أو دمي
أنا سيد الطين والياسمين
أنا سيد الحزن والمتعبين
أنا سيد الاحتضار"
الشاعر يمتلك رصيدا هائلا من القوة الروحية، حيث يستحيل أن يغدو رمادا في أتون الحياة، فهو:
"نرجس يرتمي في العراء
وسوسنة القلب مثقلة
بالأجنة والكبرياء"
لقد رأيت في مرآة هذا المقطع صورة شبيهة بكلام لم يضع في زحام الكلمات:
"رحم الأرض مكتظة بالأجنة
والقصيدة أحصنة كفرت بالأعنة.
في قصيدة "آخر الأنبياء" المهداة إلى "سعدي يوسف" نشم رائحة المنافي التي تتبرعم في أغصان القهر والمكابدة:
"ها هو الآن
ما بين منفى ومنفى
صامتا مثل سوسنة الحقل
أو هادئا مثل طير الجزيرة
أو آخر الأنبياء.."
ويرسم لنا الشاعر صورة خارجية لسعدي يوسف قائلا:
لم أكن أستريح إلى صمته
لم أكن أشتهي أن أرى وجهه
لم أكن أشتهي
أن أرى وردة ذابله.."
يبدو أن الشاعر قد سيطرت عليه هذه الحالة في لحظة بائسة، فهو يكره صمت سعدي يوسف ويتمنى لو رآه في ظروف أجمل وأفضل.. وردة نضرة في حدائق الوطن مثلا، غير أن الأمر لا يبدو لي كذلك، فما أجمل صمت سعدي يوسف الذي يخبئ خلفه براكين الشعر والقوة ونزيف الوطن، وما أجمل وجهه النبوي الملطخ بالشعر والمنافي والأشواق المزمنة، تستوقفني هنا جملة رائعة للمخرج والممثل اللبناني "ربيع مروة" في العدد الأخير من مجلة "الطريق":
"لنكنس كل الكلام الصامت والصورة الفارغة من على الخشبة، ونستبدله بالصمت المليء بالمعاني والصور"، وصمت سعدي نحبه لأنه مليء: بالمعاني والصور وأشياء أخرى، غير أن المقطع الصغير التالي للشاعر "بوعلي" يعطي صورة حقيقية وشعرية عن سعدي"
كان يبكي
على شرفة قد تداعت
ثم عانق صورته
واختفى في السؤال"
القصيدة بصفة عامة تترك في النفس آلاما ممزوجة بلذة مبهمة.. غامضة..
شكرا لهذا القلم المغربي الجميل، لهذا القمر الشعري الذي أتمنى أن يطل علينا دائما، ويزين سماء حياتنا الديجورية بنباريس الشعر رجما لشياطين الظلم و"فقهاء الظلام".

جميل داري
جريدة تشرين - الصفحة السابعة - الثلاثاء 10/8/1993 -العدد 5710

عبد القادر الغزالي: "تألق الشاعر عبد الرحمن بوعلي"


تألق الشاعر عبد الرحمن بوعلي
تحولات يوسف المغربي
د.عبد القادر الغزالي

ما يفتأ الإبداع المغربي شعرا ورواية ومسرحا ونقدا وبحثا، يؤكد جدارته في الريادة والتألق في المحافل الثقافية والتظاهرات العربية، من خلال التقدير والاعتراف الذي تحوز عليه الآثار الجادة وبتتويج الشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي بحصوله على جائزة مؤسسة البابطين في صنف أفضل قصيدة ترصد مسيرة الإنسان العربي في هذا الخضم من الأحداث الجسام والمواقف الجليلة التي تضع الحاضر والمستقبل موضع السؤال، يتأكد الجهد الشعري المبذول بغية ترسيخ الصوت الشعري الخاص والأصيل. هذه الالتفاتة من مؤسسة البابطين تكتسي طابعا رمزيا وتحقق بلا شك امتدادا في سياقات القراءة والتلقي، بما أنها مؤسسة للحلم المشترك والآمال العريضة على امتداد الوطن العربي الكبير.
ولا غرو فقصيدة "تحولات يوسف المغربي" وكما يدل على ذلك العنوان تنطلق في بنياتها النصية من الخاص والمشترك، الفردي والجماعي، على مستوى اللغة والصورة والخيال والإيقاع.
وإذا كان الوصف الوطني المغربي يحيل إلى الخاصية الوطنية فإن العمق القومي العام يؤشر على الرهان الشعري الذي وضعته الذات الشاعرة باختيار تفتيت الواحد إلى كثرة وتجميع الكثرة والتعدد ضمن إطار الوحدة الكلية.
اختيار قصيدة "تحولات يوسف المغربي" بوصفها أفضل قصيدة هو اختيار للتحول والحركة ونفي للثبات والسكون وتمجيد للسفر والبحث المحموم عن المختلف في البناء الشعري القائم على الصراع والمعاناة والمكابدة. فالقصيدة في حقيقتها عصارة تجربة عميقة اخترقت الشاعر عبد الرحمن بوعلي. فقد لامس أوجاع معظم المدن العربية وشارك الناس آلامهم وأحلامهم وحفرت جراحهم في قلبه عميقا، كما حمل على عاتقه مهمة ترجمة واقعهم ومتخيلهم شعريا. سكنه صمت الصحراء فراح يجوب "الربع الخال" استجابة لنداء خفي، لا نحسبه غير نداء الصدق والأصالة: نداء الشعر والقصيدة الصدامية بامتياز.
وقبل أن تحوز هذه القصيدة الطويلة قصب السبق كان الشاعر نفسه قد بوأها مكانة سنية بالنظر إلى إبداعه الشعري على امتداد عقود طويلة. فقد كان غبر في أكثر من مناسبة أنه قاسى في ولادتها الأمرين وكابد في تسويتها أصناف من المعاناة. لقد نحتها بلا ريب من صخر فما كانت لتستوي على ما هي عليه لولا هذا العناد والإصرار الكبيران. ثم إن إحساس الشاعر أنه أودعها من عقله وقلبه وحياته ومتخيله ما جعله يتوقف عن الكتابة فترة من الزمن والإلحاح على أن تكون هذه القصيدة تتويجا لتجاربه السابقة. إنها واسطة عقده الشعري، جامعة لخبراته اللغوية والإيقاعية والتخييلية، وقبل هذا وذاك فالقصيدة تأسيس لإنسانية الإنسان واحتفاء بالحب والجمال والصداقات الشعرية العميقة.
ولقد حظيت بابتهاج شعري خاص، إذ كانت لي وقفة نقدية في شعر الشاعر عبد الرحمن بوعلي حملت عنوان "أناشيد الموت والميلاد في شعر عبد الرحمن بوعلي" خصصت جزءا من هذه الدراسة لقراءة قصيدة "تحولات يوسف المغربي" اخترت لها عنوان "الصورة والمرآة: يوسف وإخوته"، فضل الشاعر مرة ثانية تشريفي بإثباتها في الكتاب/الديوان الشعري الذي يحمل العنوان نفسه. وكلما عاودت النظر في القصيدة/الديوان كلما اكتشفت أسرار جديدة، وحركية وحيوية متجددة، سواء على مستوى اللغة المسبوكة وفق ما تقتضيه المقامات والسياقات القولية أم على مستوى الأوزان والإيقاعات المتدفقة بيسر وبلا كد أو تصنع، أو على مستوى الصور المتلاحقة الصادمة.
ولا غرو فإنها قصيدة مستقبلية بكل المقاييس تعانق الحلم العربي الكبير في التحرر والوحدة وبناء المستقبل رغم ما تحبل به اللحظة الراهنة من انكسارات وتراجعات مريعة.
ولهذه الأسباب فحصول الشاعر على هذه الجائزة هو احتفاء بالشعر المغربي في المقام الأول، واعتراف وتقدير لدور الشاعر الرؤيوي في مسيرة التنوير المستقبلي، وتأكيد على الوضع الاعتباري للشعر على المستوى العربي.





د.عبد القادر الغزالي
جريدة الاتحاد الاشتراكي
الخميس 6 ماي 2004

السبت، 1 مارس 2008

ماجد الحكواتي: حوار مع عبد الرحمن بوعلي 1

حوار مع عبد الرحمن بوعلي
أجرى الحوار: ماجد الحكواتي

بمناسبة فوزه بجائزة مؤسسة البابطين لأفضل قصيدة. وقد نشر الحوار بمجلة الجائزة التي أصدرتها المؤسسة في دورة ابن زيدون بقرطبة – العدد 48 بتاريخ الجمعة 24 شعبان 1425 الموافق 8 أكنوبر 2004. ونحن نعيد نشره لما يمثله من أهمية.

* كيف بدأت مسيرتك الشعرية؟ وإلى أين انتهت؟
- محاولاتي الأولى كانت في أواخر الستينات وبداية السبعينات. كنت كأي شاب في ذلك الوقت أقلد الشعراء المشهورين مثل الشابي وبدر شاكر السياب . وكنت أقرأ كل ما أجده أو يصلني بنهم شديد، بدءا من قصص أرسيل لوبين ومسرحيات توفيق الحكيم والشعر القديم والشعر الرومانسي والشعر الفرنسي.
وبداية السبعينات كانت بالنسبة إلى تجربتي مرحلة أساسية. في تلك الفترة انتقلت من مدينة وجدة الواقعة في الحدود المغربية الجزائرية إلى مدينة الدار البيضاء التي كانت مدينة الثقافة والمدينة الأوروبية بامتياز. وكنت أنا في ريعان الشباب والانطلاق والأحلام، أنا الآتي من الحدود إلى المركز.
ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أكتب دون أن أكترث بنتيجة كتابتي..
كانت قصائدي تتراوح بين ما هو ذاتي وما هو سياسي. وفي معظم الأحيان كان السياسي يطغى بحكم الظروف السياسية التي كانت تحيط بي، وكان هذا الطغيان يمنح لقصائدي لونها المباشر والصادم. ثم ما فتئت أن وجدت في داخلي عوالم ثرية جعلتني أكتب شعرا جديدا، تتداخل فيه الأصوات وتشتد وتعلو فيه النغمة الدرامية. وقصيدة تحولات يوسف المغربي هي التجسيد الحي لهذا النوع من الشعر.
أنا الآن في مرحلة قد أدعي أنها جديدة. ولكنها تنحو في اتجاه مسارات أخرى مجهولة أنا الآن بصدد اكتشافها.
* ما المرجعية التي تستند إليها في شعرك؟
- مما لا شك فيه أن الشاعر يحتاج إضافة إلى الموهبة، إلى مرجعية هو ينهل منها، وهي تقوده إلى صناعة ما يكتبه. والمرجعية الإبداعية ليست بالمسألة البسيطة لأنها معقدة ومركبة، بخلاف المرجعية العامة للسياسي أو المفكر أو عالم الاجتماع. وهذا التعقيد يعود إلى كون الشاعر خالقا لعوالم وصانعا لها بالكلمات والخيال. ومن هنا فمرجعيتي هي أولا مرجعية أدبية، أي أن كل ما هو أدب يشكل مرجعا بالنسبة لي. وهي ثانيا مرجعية معيشية ، ولا أقول واقعية فقط، أي أن كل ما يعاش ، سواء في الواقع، أو في الأفكار أو التأملات أو الخيال أو الأساطير أو التاريخ... يؤثر في شعري ويؤثث إبداعي. إليوت أشار بذكاء إلى ذلك حين ربط الفنان بتاريخ طفولته وتاريخ جنسه البشري السحيق. وأنا بصفتي شاعرا، أتحرك ضمن هذه المرجعية والمساحة التي تضرب في الماضي السحيق، العربي والإسلامي والكوني، وتنفتح على الحاضر والآتي.
* هل يتراجع الشعر العربي عن مكان الصدارة للفنون الأخرى الوافدة؟
- للأسف الشديد، نسجل أن الشعر العربي تراجع كثيرا كثيرا. بل ولم يعد له ذلك المكان الصغير في حياتنا. ليس في عالمنا العربي فقط. ونسجل أيضا أن الإبداع بصفة عامة تراجع إلى الوراء. وأنا لست من ذلك الفريق الذي يقول إن الشعر تراجع لصالح الملحمة البورجوازية أو ملحمة الغرب، وأعني الرواية، وإنما أرى أن العالم العربي دخل هوة الاستهلاك المادي. وأن القراءة والاستمتاع بالأدب والتعبير بالأدب ، كل ذلك اصطدم بصخرة التحولات المادية الكبرى التي طرأت علينا في السنوات الأخيرة. ونخاف أن نشهد في المستقبل انقراض هذا الكائن العجيب الذي هو الأدب.
* شاعر الجماهير أم شاعر النخبة، أيهما تفضل؟ ولماذا؟
- أنت تطرح إشكالية تدخل فيما يسمى بنظرية التلقي، سببها خصوصية واقعنا العربي المنقسم على نفسه والمشتت بتعبير المفكر المغربي عبد الله العروي. وكان من الممكن أن يكون الشاعر في نفس الوقت شاعر الجماهير وشاعر النخبة. ولكن للأسف، وبحكم الأمية والتخلف المنتشرين في المجتمع العربي، بقي الشاعر بعيدا عن الجماهير، لا يفهمها ولا تفهمه، وإن كان قريبا منها روحا وفكرا وعاطفة. وفي الوقت ذاته لا يمكن أن نتفق على أن هذا الشاعر هو شاعر نخبة، لأن النخبة نفسها لا تملك من مواصفات النخبة ومحدداتها إلا القليل.
وبالنسبة لي، فإني لا أعتبر نفسي لا شاعر جماهير فقط، ولا شاعر نخبة فقط. أنا شاعر الجميع. وإذا كانت الجماهير لا تفهم شعري فذلك مرده إلى واقعنا المعقد والمهزوم والمتأخر، وإذا النخبة لا ترتقي إلى استيعاب شعري، فلأنها لا تبذل جهدا أكبر للاستمتاع بالشعر.
* بم يختلف الشاعر المعاصر عن الشاعر القديم؟
- هذان الشاعران يتفقان في الصفة، ولكنهما يختلفان من حيث العصر فقط. أي من حيث الأحداث والوقائع التي شهدها الشاعر القديم ويشهدها الشاعر المعاصر. ولذلك فأنا لا أفرق كثيرا بين شعر الحداثة والشعر القديم. كما أنني أكتب الشعر القديم ولكنني لا أنشر ما أكتب، لأنني أتحيز إلى عصري. ثم إنني أشبه كثيرا الشعراء القدامى، أشبة طرفة بن العبد والمتنبي وغيرهما. لكن ما أطرحه في شعري ينبع من عصري.
* هل هناك تعارض بين الذاتية والموضوعية في الشعر؟
- الجانب الموضوعي في الشعر يكمل الجانب الذاتي، والجانب الذاتي يكمل الجانب الموضوعي. والشعر إذا لم يكن يجمع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، أي إذا كان إما ذاتيا محض أو موضوعيا محض، اختل وسقط. لذلك فالشاعر يحتاج إلى ثقافة واسعة تشكل الجانب الموضوعي، ويحتاج إلى تجربة غنية يستقيها من واقعه العام وواقعه الشخصي.
- ما دور الثقافة في الإبداع الشعري؟ ومتى تكون الثقافة عائقا أمام القريحة الشعرية؟
- كل شاعر يفترض فيه أن يكون مثقفا، وأن يملك نصيبا وافرا من المعرفة. اقرأ تجارب الشعراء الكبار، السياب، إزرا باوند، إليوت، المتنبي، والت وايتمان، لوركا، نيرودا... وستكتشف لديهم كنزا لا يقدر بثمن. ومن جهتي أنا، فأرى أن الثقافة لا يمكن أن تكون عائقا أمام القريحة الشعرية، إذا كان الشاعر يملك موهبة حقيقية.
* ما موقع الشعر المغربي الحديث في الخارطة الشعرية العربية؟
-الشعر المغربي للأسف لم ينل نصيبه من الدراسة لا في المغرب ولا في البلدان العربية، فقد بقي بعيدا عن الأضواء وعن مراكز الثقافة العربية المشرقية بامتياز. والشعر المغربي الجيد لم يمكنه النقد من الطفو على السطح، وإنما ما انتشر منه ليس جيدا بمقاييس الجودة الشعرية، بسبب النقد الإخواني. هذه مسألة أخرى، لكن الأهم أن الشعر المغربي في العقود الأخيرة وبعد أن خرج من العباءة المشرقية، قدم من حيث المستوى تجارب تنافس الشعر العربي في الأقطار العربية الأخرى. وقد حقق مثله مثل التجارب العربية المشرقية طفرات إبداعية لها مقوماتها الخاصة بها.
* ما معيار القصيدة الناجحة؟
- القصيدة الناجحة لا يختلف حولها الناس. ليس بالمعنى الذي ذهب إليه الشاعر القديم )ويسهر الخلق جراها ويختصم( ولكن بمعنى الاتفاق. وكل قصيدة تنجح في صياغة نفسها بالأدوات المعروفة تصبح إضافة من الإضافات. ونجاح القصيدة غالبا ما يكون نتيجة للتكامل بين الذاتي والموضوعي، بين الماضي السحيق والحاضر، بين اللغة والإيقاع، بين الأسلوب والأفكار.. القصيدة الناجحة هي نوع من السحر، أو هي السحر بذاته.

أجرى الحوار ماجد الحكواتي / الكويت
20/09/2004