إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 فبراير 2008

الآثار المسترجعة

الآثار المسترجعة
قراءة في رواية تل الورق
[1] لعلي تيزيلكاظ[2]

د.عبد الرحمن بوعلي


مدخل:
بداية لا بد من التنبيه إلى أن هذه القراءة التي سأقدمها في هذه الأمسية لرواية تل الورق La Colline de Papier لـعلي تيزلكاظ لا تشكل إلا تقديما أوليا لنص متميز يصدره كاتبه بعد رحلة طويلة من المراس والمكابدة الصامتين قي مجال الكتابة المغربية. وبداية أجدني مضطرا للاعتراف أن ما خرجت به من قراءة هذا النص هو متعة أكبر من أن يعبر عنها هذا التقديم. ولذلك فلا مناص إذن، من أن تكون قراءتي لهذه الرواية قراءة عاشقة أولا، ليس لأني أريد أن أجامل كاتبها فأنا لم أتعرف عليه بعد، وما قرأت له إلا ترجمات هنا وهناك، في تواريخ متفرقة. ولكن الرواية فرضت نفسها علي طيلة أيام من المصاحبة، ونشرت أمامي خريطة من الأماكن الفاتنة كانت مجرد أماكن متشظية، ورسمت مصائر متباينة، وبعثت فيهما الروح التي فارقتها والعبق الذي كان ينبعث منها منذ عقود.
من هنا فإن ما أثارني في الكتابة الروائية أكثر هو هذه القدرة الكبيرة التي امتلكها الكاتب ليبعث منطقة بأكملها، وليجعلنا نحن القراء نعايش فترة من زمنها، وهي الفترة التي تؤرخ بالسنوات الأخيرة للاستعمار الأجنبي للمغرب وبداية فترة الاستقلال، أي من أكتوبر 1953 إلى أواسط يونيو 1963، أي أكثر من عشر سنوات ثلاثا قبل الاستقلال وثمانية بعده.
أضف إلى ذلك أن الكاتب قدم لنا هذا التاريخ من خلال رؤية طفولية بريئة بطلها الطفل القروي والساذج أعراب الذي ورث عن جده لأبيه اسما هو أعراب، وعاش في كنف جده لأمه حمو محند، بعيدا عن أسرته الصغيرة .وحيث أن أبا هذا الطفل كان متسلطا، إلى درجة أنه لم يكن يهمه إلا استخلاص منحة الستة عشر درهما في آخر كل شهر، فقد عاش الطفل الذي كان مفترضا أن يعيش بين أكنافها مع جده.
وعلى ما يبدو من قراءة الرواية قراءة أولية، فإن علي تيزيلكاظ، على المستوى النظري، يحاول أن يستعيد شكلا روائيا طرقه الروائيون المغاربيون الأوائل الذين وضعوا أسس الرواية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية. هذا الشكل هو الذي نجده مطروقا عند مولود فرعون ومحمد الديب ومولود معمري وغيرهم. غير أنه من الإجحاف وعدم الإنصاف ألا نضيف إلى ذلك تفصيلا آخر وهو أن علي تيزيلكاظ رسم لتجربته معالم وحدودا خاصتين به، وأتاح لروايته أبعادا غير تلك الأبعاد التي أخذتها روايات من قبيل الابن الفقير والربوة والمنسية والماضي البسيط وغيرها من روايات المرحلة الاستعمارية، الأمر الذي أتاح لتل الورق، وهي النص الذي نقدمه اليوم أن تعتبر قيمة مضافة.
إن ما أتاحته رواية تل الورق على هذا الصعيد أنها نفضت الغبار عن فضاء كان مجرد أحجار وجبال ووديان وقبائل راحلة ومتصارعة دون كلل أو ملل أو عياء، منظورا إليه من الزاوية التي يرى بها طفل وهو يخطو خطواته الأولى في مضمار الحياة، طفل لا يكاد يميز بين الأشياء، ولا يعرف ما الذي حدث بين أمه وأبيه في تلك اللحظات التي عصفت بجسده النحيل، ليركب حمار جده في اتجاه مجهول.
بنية تل الورق:
قد لا نكون بعيدين عن الحقيقة إذا قلنا إن تل الورق قد تكون سيرة ذاتية للمؤلف، أرداها أن تكون مجرد نص un récit كما هو مثبت على الغلاف. ولن نذهب أكثر مما ذهب المؤلف، ولنعتبر تل الورق مجرد نص أدبي يحكي قصة. أما القصة فتتأسس على حدث مركزي، هو حدث انفصام العلاقة الزوجية بين والدي الطفل أعراب في لحظة تراجيدية: محمد بن أعراب محند العامل بمنجم جرادة، وتاعرابت بنت حمو محند، بسبب خيانة زوجية يقوم بها الأب في لحظة من لحظات ضعفه مع جارته المنتمية لقبيلة أولاد سيدي علي. وعليه يكون على الابن الذي لم يتجاوز السنة الثالثة من العمر والذي لم يصل بعد إلى سن الإدراك، أن يساق سوق النعاج إلى العيش مع جده لأمه حمو محند الذي سيتكفل به وسيألوه الرعاية اللازمة لطفل في مقتبل العمر. ولذلك سيجبر الطفل أعراب إلى الانتقال إلى القرية التي سمي المؤلف بها تيزيلكاظ ومعناها تل الورق. هذه القرية فيما بعد، ستصبح كل شيء بالنسبة للطفل. ستصبح مملكته، وجنته الطفولية. من هنا يكون الخيط الذي ستنطلق منه تلابيب الحكاية، لتتناسل حدثا بعد حدث، ولتتمازج حكايات الأسر التي بعضها يعيش تحت الخيام، والبعض الآخر في الأودية وبيوت سكن عمال المناجم.
ولأن أعراب لم يعد يربطه بعائلته أي رابط، فقد كان عليه أن يترك ساقيه للريح، تجريان وفق ما يشتهيه الشيخ الكبير والجد حمو محند، والإرادة الإلهية التي رسمت له خطاه. وفي الطريق إلى تيزيلكاظ، يمر الشيخ والطفل ببوتفالاوين، حيث يستقبلهما أحمد أوزداد، وحيث المناظر التي تأخذ بلب الطفل أعراب، والطقوس التي تملأ عالم الجد: من صلاة في القفار، وحبات المسبة التي تتراكض بين أصابعه... والوصول إلى تيزيلكاظ المحطة الثانية في رحلة الطفل أعراب يفضي في لمحة خاطفة إلى زيارة المرس حيث مقبرة العائلة القديمة ومساكن القبيلة الألى، وحيث الرائحة المعتقة، وحيث يقيم الطفل في خيمة الجد لفترة من الزمن، حتى نعن للجد فكرة الرحيل دون سابق إنذار أو سبب أو استشارة عائلية، ليجد الطفل نفسه هو والآخرين مستقرين في إيغزر ورثان المحطة الثانية في مسار أعراب التراجيدي بعد أن ظل يحلم في مملكته القديمة وجنة عدن الجديدة: تيزيلكاظ. ثم تأتي الرحلة من جديد، هذه الرحلة ستكون قاسية مثل الرحلة الأولى عندما ترك أبويه للمرة الأولى وركب حمار الجد، ومثلما كانت الرحلة الأولى صعودا وفرارا من الحفرة السوداء إلى تيزيلكاظ، وعلى متن حمار الجد، فالرحلة الأخيرة ستكون نزولا وعودة وعلى ظهر بغلة أحمد أوزداد من إيغزر ورثان إلى الحفرة السوداء )جرادة( بطلب من الأب الذي سنعرف أنه لا يهمه من هذه العودة سوى الستة عشر درهما التي سيتقاضاها من الشركة مقابل تمدرس طفله أعراب. غير أن الطفل أعراب وهو المتيم بالحرية، لا يفتأ بعد بضع ساعات فقط في بيت أسرة أبيه، أن يغادر من جديد ليسكن بيت فاطنة وزوجها محمد، وهو البيت الذي في حاسي بلال القرية التي تبعد بأربع كيلمترات عن جرادة.
ومن دروس الفقيه في مسجد قرية حاسي بلال إلى مدرستها العصرية الابتدائية يكتشف الطفل أعراب عن طريق التعلم ما لم يكن يعرفه عند جده حين كان حرا طليقا. يكتشف بالخصوص النصارى الذين كانوا يلقنونه الدروس من أمثال أرليط وأورتيغا ومدير المدرسة كاسيطاري، ويكتشف العلاقات خارج الأسرة.
وتنتهي الرواية بعد رحلة الطفل أعراب الطويلة والمضنية، تنتهي بمشهد ساحر يسرد فيه الطفل أعراب ذلك الصباح الذي وجد فيه نفسه وهو أمام باب المدرسة يهم بدخول فصل الامتحان: " كانت التل هذا الصباح مكسوا بحقل الشعير الذي كان قريبا من النضج. وكانت نسمات خفيفة وخجولة وحنونة تحرك السنابل... توقفت لحظة. كانت أنفاسي متوقفة من فرط وقوة هذا الجمال المهدي لي. أنا وحدي هذا الصباح أواسط يونيو 1963. وأنا متقدم بأكثر من ثلاث ساعات على موعد بداية امتحان شهادة التعليم الابتدائية في المدرسة الفرنكو إسلامية"[3].
شخصيات الرواية:
تقوم الرواية على مجموعة من الشخوص بعضها أساسية وأخرى ثانوية وثالثة بين المنزلتين. والشخص التي تهمنا بالدرجة الأولى هي الشخوص الأساسية التي تبني عالم تل الورق وتصير مصائره، وفي نفس الوقت تعطي الملامح والمفاصل الكبرى لقصة الطفل أعراب، إن صعودا من الحفرة السوداء إلى تيزيلكاظ، أو نزولا من تيزيلكاظ إلى الحفرة السوداء. وفيما يلي جرد بها:
1- الطفل أعراب.
2- الجد الأكبر محنسيالي: وهو أب حمو محند وأعراب محند جدا الطفل أعراب.
3- حمو محند وأعراب محند ابنا محنسيالي وجدا الطفل أعراب.
4- الأم تاعرابت ابنة حمو محند.
5- الأب محمد.
6- حليمة جدته لأبيه.
7- يامنة جدته لأمه.
8- تيفا ومريم خالتاه.
9- البشير عامل المنجم الذي قتل محمود.
10- محمود زوج ميمونة وغريم البشير.
11- ميمونة زوجة محمود.
12- حبابة المرأة الجيلة واللعوب والحمقاء.
13- محند فريتوت العامل بالمنجم ورئيس البشير وخليلة حبابة.
14- كاسيطاري وأرليت وأورتيغا الفرنسيون الذين جاؤوا إلى الحفرة السوداء في مهمة التعليم.
هذه هي الشخوص التي تؤثث فضاء تل الورق، وهي شخوص وإن كانت متفاوتة من حيث الأهمية والمكانة والدور الذي تم إعطاؤه لها في الحكاية، تظل حاضرة حتى وإن غيبها السارد. وإذا كانت بعض الشخوص لا ترد إلا عرضا في ثنايا الحكي، مثل الأم التي لا يكاد الطفل يتذكر سوى مشهد نحيبها ذات يوم من أيام أكتوبر من عام 1953، ومحنسيالي الجد الأكبر الذي يحضر من خلال ذلك السرد الملحمي لرحيل القبيلة الدائم، ومحمود زوج ميمونة والقتيل الذي أسكته وإلى الأبد البشير ذات مساء في شجار سببه الغيرة، والجد أعراب محند، وشخوص أخرى..فإن شخص الجد للأم حمو محند ذي اللحية البيضاء التي تلامس الرأس المحدودب والأصلع للطفل أعراب، " هذا الجذر الأكبر الذي يمسك بشجرة النسب"، أخذ نصيب الأسد في الرواية. أضف إليه شخوص الجدة يامنة، والخالة مريم ذات الأربع عشر ربيعا. هؤلاء – إضافة إلى تيزيلكاظ- هم الأقرب إلى أعراب: " أصبحت تيزيلكاظ مملكته وأصبح جده وجدته وابنتهما مريم عائلته الوحيدة الحقيقية"[4].
وفي سياق تحولات العائلة وتنقلاتها تتطور شخصية أعراب، زمنيا من أكتوبر 1953 إلى يونيو 1963، ومكانيا من تيزيلكاظ إلى بوتفالاوين إلى إيغزر ورثان وتغازوت إلى جرادة إلى حاسي بلال، ونفسيا من طفل بئيس متروك لمصيره في كنف ورعاية جده، واجتماعيا من راع للغنم إلى متعلم في المسجد ثم تلميذ في المدرسة الفرنكو- إسلامية.
أمكنة الرواية:
تنوع الشخوص في تل الورق يفضي إلى تنوع الأمكنة التي تؤثث عالم الرواية. فالأخيرة مليئة بالعديد من أسماء الأمكنة وأسماء القبائل، وهي الأمكنة والقبائل التي يصادفها الطفل أعراب أثناء رحلته الطفولية، والتي ترك فيها وعندها بعضا من عواطفه وأحاسيسه الجياشة. ومن بين الأمكنة التي جاء على ذكرها: الحفرة السوداء أو جرادة، مدينة الشربون والسيليكوز كما يسميها سكانها، وحاسي بلال القرية المجاورة لها والتي كان يقطنها من له الحظ، وخصوصا المستعمرين، وتيزيلكاظ أو تل الورق بالأمازيغية، بلدة الجد حمو محند، وبوتفالاوين، وإيغزر ورثان، وتغازوت، والمرس، والقعدة، ودبدو وتكافايت، وبلاد الجع، وراس الواد... أما أسماء القبائل فترد أسماء مثل: الجع والزوى وبني كيل وولاد سيدي علي وبني معال وبني زناسن وأولاد عمار وإيرمدانن وغيرها.. وكلها قبائل معروفة ومشهورة في المنطقة.
دلالة الرواية:
انطلاقا من المحاور التي استعرضنا وهي محاور القصة والشخوص والأمكنة، تتشكل تل الورق، لتعكس لنا عالم الطفل أعراب، وهو يواصل مسيرته الحياتية، بعد ذلك التوقف التراجيدي لمسار حياته، وبعد أن انكشفت العلاقة السرية التي كانت تربط والده محمد أعراب بالمرأة السمراء من قبيلة أولاد سيدي علي، وبالتالي انكسار هذه العلاقة الزوجية وتحول الطفل ذي الثلاث سنوات إلى كرة تتقاذفها الرياح، إلى العيش في كنف جد، محمولا على حمار من خيمة والديه إلى بلدة تيزيلكاظ. وإذا كانت قصة الطفل أعراب هي القصة المركزية، فالرواية لا تخلو من أحداث أخرى من الأهمية بمكان، سواء تلك التي تعرضت لأحداث داخل العالم الروائي لتل الورق، ومنها ما يتعرض له عمال المناجم، أو تلك التي ارتبطت بتسجيل عادات متفشية في المنطقة أو معارك دارت بين شخوص...
ضمن هذه الأحداث من الممكن أن نشير إلى قصة العامل البشير الذي نعرفه في الرواية عاملا في المنجم، وفي الحياة مغرما بميمونة ثم بحبابة ثم قاتلا لمحمود ومطالبا بالدية. والبشير هذا شخصية تبرز معاناة عمال المناجم، والظروف القاسية والمضنية وذلك بعلاقة مع فريتوت رئيسه المباشر في العمل ومكائده التي نصبها له وكادت تودي بحياة البشير في مرة من المرات. ثم هناك قصة ميمونة التي كان البشير متيما بها لدرجة رغبة في الزواج منها، لكن القدر منحها لمحمود، والتي حضر الطفل أعراب في زواجها وكان حظه أن طلب منه ليتقدمه نحو هودج الزواج لتمتطي البغلة المعلومة.
كل هذه الأحداث وغيرها كثير، نسجت حكايات تل الورق، مما جعل الرواية منخرطة في محيطها الاجتماعي والطبيعي والعاداتي. ومما أعطى لها تلك النكهة الواقعية التي منحت لعلي تيزيلكاظ كتابة تسترجع آثار الماضي بأسلوب جذاب، قريب إلى العقل والقلب في نفس الآن.
خلاصات:
من الخلاصات الأساسية التي نسجل في نهاية هذه القراءة خلاصة أساسية أولى، وهي أن رواية تل الورق ليست مجرد رواية تضاف إلى حصيلة الإنتاج الروائي المغربي المكتوب بالفرنسية، بل هي عمل تخييلي وسيرذاتي وروائي متميز يضيف قيمة مضافة إلى الرواية المغربية بصفة عامة. ليس هذا فحسب بل تل الورق وثيقة تاريخية رصدت لمرحلة تاريخية حساسة ولمنطقة ظلت ولا تزال من هوامش المغرب إن لم نقل من المغرب غير النافع. وقد قيض لها كاتب من أبنائها أعاد لها وهجها وكبرياءها وعنفوانها من خلال استعادة لشذرات من تاريخها. والحق أن تل الورق، وهي الخلاصة الثالثة والأخيرة، رواية تستحق أن تقرأ وأن تقرر ضمن مقررات التدريس، لتميزها الفني وغناها التاريخي والأنتروبولوجي والتربوي.
[1] La Colline de papier- TIZI Editions- Imprimerie Najah Eljadida-Casablanca-2007
[2] هذه المداخلة قدمت في إطار النشاط الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب المكتب المركزي وفرع وجدة بجرادة يوم 18 يونيو 2007، احتفاء بصدور رواية تل الورق.
[3] تل الورق، ص 245.
[4] تل الورق، ص 28.

بشير القمري: "قراءات في شعر الشاعر عبد الرحمن بوعلي"


function fenetreAlbum(lien)
{
window.open(lien, 'Sample', 'toolbar=no,location=no,directories=no,status=no,menubar=no,scrollbars=yes,resizable=yes,copyhistory=no,width=420,height=400');
}
قراءات .. الشاعر عبد الرحمن بوعلي:
كتاب التحولات، التناص المركب
بشير القمري


لا يحتاج الشاعر عبد الرحمن بوعلي إلى تقديم، فما أنجزه على مدى ثلاثة عقود من الشعر، منذ صدور مجموعته الأولى أسفار داخل الوطن (1977) إلى مدن الرماد (2005)، يعكس ما انفرد به في تجربته الخاصة وما يجعله منفصلا - متصلا ب جيله وعنه أيضا·
أتحدث هنا عن جيل السبعينيات رغم ما يحمله المفهوم من تجاوز ضمني متى نظرنا إليه وفيه تقليديا، الجيل الذي أصغى إلى العديد من متغيرات الكتابة والنص الشعريين، ليس فقط في المغرب، بل في جميع أقطار العالم العربي· وهنا علينا أن نؤكد حقيقة نقدية دامغة هي أن تجربة الشعر المغربي بأكمله كانت دوما على اتصال بالشعر العربي الحديث والمعاصر على السواء، وتظل كذلك بالنسبة إلى الحاضر· من ثم: تكتسب مغامرة الشاعر عبد الرحمن بوعلي صلابتها ومصداقيتها وهويتها ورهاناتها، وتزداد على مستوى التلقي، رسوخا عندما نستدرك ونعي السياقات الكبرى لهذه المغامرة المتوثبة التي لا تأتي معزولة عن تجربة صاحبها في تذوق الشعر العربي، رغم اهتمامه، علي مستوى الحياة العلمية والمعرفية، بالبحث في مجال الرواية والترجمة·
الشاعر عبد الرحمن بوعلي ًسبعيني لكنه لا سبعيني أيضا حين نتأمل بعضا من قبسه في منتخباته كتاب التحولات وقصائد أخرى (م: مجلة ضفاف· مطبعة طريفة· بركان المغرب 2005 - 149 صفحة) هذه المنتخبات هي عبارة عن نصوص متفرقة كتبها الشاعر مستخلصا بعض لحظاته الوجودية المتوترة بين المغرب وسلطنة عمان حيث عمل أستاذا للأدب العربي على مدى ثلاث سنوات· ويهمنا من هذه المنتخبات نص تحولات يوسف المغربي الذي حاز به الشاعر على جائزة البابطين للإبداع الشعري في صنف أفضل قصيدة (دورة ابن زيدون· قرطبة 2004)
يهمنا، قلت، لكنه يقلقنا أيضا، والقلق هنا ليس مرده رؤية الشاعر التراجيدية، بل القلق المنهجي - النقدي والنظري في تصور ومقاربة هذا النص - العلامة وهو يمتح من معين شعري زاخر مترامي الأطراف، لغة ومعجما وتركيبا ودلالة، مما يجعل الفهم ثم التأويل صعبين: من أين نبدأ؟ هذا السؤال البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي يتحدانا في مواجهة هوريكا الهندسة: وجدتها! وجدتها، والذي يجعلنا نستعيد لحظات مؤسسة للشعر والشعرية في النص·
قصيدة - نص تحولات يوسف المغربي عبارة عن ستة عشر مقطعا تتكلم وتتحكم فيها، في لغتها، كل عناصر التشعير: الكثافة، الاقتصاد، الإيحاء، الرمز، الغنائية، الإنشاد، ونحس أنفسنا، ونحن نقرأ النص إشاريا، كأننا في مأتم أو في جنازة واعتراف بذنب لم يقترف وأن المحكوم عليه برئ لكنه مدان، وعوض أن يتخاذل يصر على المواجهة· يقول النص في المقطع الأول:
في مملكة الوقتتأخذني الريحعلى كتفيهاوتتوجني ملكايحلم بالكلمات،في مملكة الوقتتحملني الريحعلى كتفيها،فأرى مدنا فارغةوأرى صوراوقرى ضائعة ولغات،وأرى وطنييهجره الأحبابويسكنه البؤساء·· الخ (ص 14)
لو اكتفينا بالقراء التناصية لوقفنا عند ويل للمصلين، لكننا، عندما نمعن النظر، سيتضح لدينا أن تناص الشعر - تماهي الشاعر مطلوب مادام زمن الشعر العربي، رغم تقطعه، زمن مسترسل، يحمل في ثناياه سيرورة وصيرورة الوقت الواحد لأصوات متعددة هي صوت النابغة وزهير والخنساء وأبي هذيل والمتنبي والسياب ودرويش، ثم: عبد الرحمن بوعلي الذي يسير على وتيرة الكنوني، المجاطي، راجع في المغرب، لكنه يحيد عنهم إذ لا يريد، ولا يمكن، أن يكون خير خلف لخير سلف، فالشعر لا يورث ولا يكتسب وإنما يتخلق· وأعتقد في هذا السياق السريع، أن عبد الرحمن بوعلي شاعر يخلق قصيدته من رحم ما تحقق من تراكم قبله، وكأنني به يسعى إلى جعل الشعر شاهدا على الفجيعة الدائمة التي عاشها الشعراء العرب قديما وحديثا ويعيشونها راهنا في ظل الكماشة الحضارية التي تقبض على الكينونة والوجود العربيين، من ثم يختار الشاعر عبد الرحمن بوعلي لغة سهلة ومعجما متداولا، لكنه يلبسه ويغيشه بمسوح المفارقة، إذ يقول في نهاية المقطع الأول:
وأرى لغتيتعبرني لاهبة:- أأنا المفتون بوقتيوالمرمي على قارعة الأحباروأقبية الماضي؟أأنا الموعودبرائحة الجنة والموتى؟أأنا سيزيف المخبول؟أأنا القاتل·· والمقتول؟ (ص 14 - ص 15)
الشعر - اللغة: مسألة نقدية، لكنها في فعل الشعر مسألة جمالية اذ تترجم علاقة الشاعر بالعالم والأشياء والموجودات وتتحول إلى مجذاف لخوض عباب القول ويم الكلام الشعري· الشاعر يقول المرمي ولا يقول الملقى، والمرمي أكثر سيولة وغزارة، لأنها تترجم وعي الشاعر الجمالي باللغة وبالحدث، لأن المرمي كائن و الملقى شيء وتنداح بعد ذلك المقاطع: في المقطع الثاني الوقت يتربص (ص 15)، أما في المقطع الثالث فيستدعي الشاعر صورة يوسف بعد استدعاء صورة سيزيف في المقطع الأول ويتناص مباشرة مع القرآن، لكنه يمنحه مجازا آخر:
أنا يوسف يا أبتوهم الإخوة باعونيبرغيفما علمواأن الحكمة زادي (ص 18)
تناص يخلخل الرؤية الفجائية ويدعو إلى الإدانة، إدانة الزمن الأخرس (المقطع الرابع، ص 20) و الزمن الفج نفسه، ص 21) قبل أن يصرخ الشاعر طبعا:

زمن هذاأم زبدأم حجرات؟مدن هذيأم مقصلةأم شرفات (المقطع السادس: ص 24)
الزمن ثم القضاء، أو الزمن - القضاء، وهم المؤشران القائمان في الشعر منذ الأبد، لا توحد بينهما سوى اللغة، سوى نظام اللغة، وتلك ثلاثية يمكن على ضوئها قراءة كل المتن الشعري العربي والكوني: نظام الزمن، نظام الفضاء، وبينهما نظام اللغة، أي نظام الكتابة، التجسيد المادي للغة، غير أن الكتابة لا تكتفي باللغة كما هي، بل تعيد إنتاجها (اإنتاجيتها كما تقول جوليا كريستفا) لأننا عندما نكتب، نهدم نظام اللغة، نبنينه ولا نبنية فحسب· وأعتقد أن الشاعر عبد الرحمن بوعلي يشخص بقوة ورهافة هذا الهدم - البناء، لأنه يدرك ما للكلمة واللفظة والعبارة والتركيب والجملة والمقطع والنص من ممكنات مغلقة - مفتوحة، وكأني به صانع لتحفة معدنها اللغة الذي لا يكتفي بالنحت والصوغ، إذ ينبغي الصهر·الشاعر بوعلي يصهر اللغة في أتون الصياغة وبذلك يحقق توازن الشعرية التي لا تريد أن تبتعد وتتيه في مهمة التجريب المفرط وصحراء الإبهام، كما هو شأن عدة تجارب شعرية عربية تولد ميتة نتيجة العمليات القيصرية الدائرة في فلك الشكلية الفارغة، وما أكثرها، من المحيط الى الخليج ومن الخليج الى المحيط، باسم الحداثة الجوفاء المعطوبة التي تكرس الخلل والعمى والتيه مجانا وبلا طائل· ليس بالمعنى الشعري فقط، بل بالمعنى الثقافي أيضا، ذلك المعنى الذي ضاع في حمأة دوامة قتلت روح الشعر وأغرقت سوقه بدكاكين كاسدة تتاجر في نفس المنتوج الذي يشبه لعب الأطفال الزائفة·من ثمة: تكون مثيلات تجربة الشاعر بوعلي وأضرابه واردة للعودة الى مملكة الشعر، الى إيثاكيا الفقد والفقدان على غرار ما نجده عند محمد بنطلحة وادريس الملياني ومحمد الأشعري والمهدي أخريف، ليس لأنهم ورثة شعر بهي يصنع بدم الوجود وبحبر الكينونة وبعرق التأمل، بل لأنهم أولائك الربابنة الذين يعرفون الإبحار بسفينة اللغة والرؤية والموقف معا كالذي تجسده نصوص بوعلي وفي مقدمتها نص تحولات يوسف المغربي الكامن فينا فعلا بعد الإقامة في ذاكرتنا مثل إقامة نصوص الشعر العربي وعيون الشعر الكوني، النصوص - العيون التي تغذي بلبانها النص المذكور إذ يذكرنا بها - تذكرنا به وتدفعنا الى استحضارها بدءا بنص فتح عمورية وانتهاء بنصوص موضوعة المدينة - المدن في الشعر العربي الحديث والمعاصر·
يقول النص - يقول الشاعر بنوع من الپوليفونية:
مدنسلبتنا التقوىوالنجوىسلبتناحتى الزمن الضائعوالكلماتمدن تمشيوعلى جثثهايصحو القحصوتخبو الرايات،مدنتمرح في الأرضوعلى جثثهايقبع نسلتصنع الكلمات،وفي صحراء الربع الخاليوفي صحراء البحر الميتوجبال الأطلسوالأوراس (المقطع السادس، ص 26، ص 27)
لا يتعلق الأمر هنا بالتناص الشكلي، وإن كان واردا· إنه تناص وظيفي دينامي يكتسح كل النصوص الغائبة ويقطرها كمن يصوغ من ذهب حلي مذوبة، ها قد عدنا الى الصياغة بالمعنى الأسلوبي، الصياغة التي تدق باب الصنعة وليس التصنيع أو التصنع، تلك الصياغة القصدية التي تنبع من داخل إدراك الشاعر لما هي عليه إمكانات اللغة وممكنات الإبداع فيها إذ أن قصيدة - نص عبد الرحمن بوعلي ليست بكاء وليست رثاء مدن، وإنما هي تحيين لفجيعة مشتركة بيننا وبينه أولا قبل أن تكون فجيعة، أن تكون الفجيعة، بينه وبين شعراء سابقين مفترضين له في المتن الشعري العربي، قديمه وحديثه على السواء، خاصة شعراء المرحلة السبعينية في المشرق· أما في المغرب، فهناك تماس نصي تكويني على الأقل بين نص تحولات يوسف المغربي و بعض نصوص محمد الخمار الكنوني في ديوانه رماد هسپريس وأحمد المجاطي في ديوانه الفروسية وعبد الله راجع في ديوانه الهجرة الى المدن السفلى على مستوى موضوعة المدينة - المدن التي تحتل رمزيا موقعا بؤريا لدى كل هؤلاء وتحتله أيضا في بعض نصوص الرواية العربية الحديثة والرواية العربية الجديدة، بدءا من نجيب محفوظ، وكلنا نتذكر نص الزمن الموحش لحيدر حيدر وما يجري فيها من أنسنة دمشق التي تتهددها الرؤى والأشواق والمدارات الحزينة، ليس بالمعنى المتحذلق، وإنما بالمعنى الأونطولوجي·
إنها المدينة - إنها المدن باعتبارها الفضاءات المشرعة على كل احتمالات الحياة، احتمالات التشظي والفقدان التي ما فتئ الشعراء العرب والروائيون يلهجون بها، لكنها أيضا المدينة الزمن، المدن - الزمن، المدن الأزمنة وكذلك المدينة - الأزمنة، فالمدينة لا تأتي في النص الشعري أو في النص الروائي منفردة معزولة عن الزمن، زمن الشاعر وزمن الروائي على السواء، بل تأتي ملفعة مشفوعة بالزمن، تأتي استعارة لزمن ولى، لكنه يظل قابعا في الذاكرة، في أبراج الوقت كما يكتب ويقول الشاعر عبد الرحمن (المقطع الثامن، ص ص28، وكذلك ص 29، و ص 32 من المقطع العاشر)، ثم إن الشاعر يحس في المدينة بتربص الوقت (المقطع العاشر، ص 32)، وفي كل هذا يستعيد، الشاعر هويات أخرى:
هل يكفيك المتنبي؟التائه في ملكوت الناس!وهل يكفيك جريروالجاحظ و الأخفش؟ (المقطع الحادي عشر ص 35)
تتكرر ففي نص تحولات يوسف المغربي عبارة يا هذا الطالع من أبراج الوقت عدة مرات (ص 28، ص 29، ص 30، ص 32، ص 34، ص 36، ص 37) وفي كل تأشيرة للعبور ينداح الزمن الى أن يتوجه الشاعر في المقطع السادس عشر برغبة تفجر أصل المجاز والاستعارة:
لك أن تبقى في رحم الأرض الثكلىلك أن تبقى في هذا الجبالغارق في الأرض،لك أن تصرخ:آه·· ما أبلغ هذا الصمتوما أبهى الصورةيا يوسف في المرآةآه ما أوسع هذا الجبوما أقسى عيشكيا يوسفبين ذويك (ص 44 - ص 45)

3/24/2006 الإتحاد الإشتراكي