إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 1 مارس 2008

قراءة في ديوان بوح البوادي


قراءة في ديوان بوح البوادي[1]
د,عبد الرحمن بوعلي


1- في استراتيجية القراءة:
اسمحوا لي أيها السادة والسيدات في البداية أن أنبه إلى قضية أساسية تدخل في صميم النقد الأدبي الحديث وتتقاطع مع نظرية الأدب بصفة عامة، تلك هي قضية استراتيجية قراءة النص الأدبي. إن أي استراتيجية لقراءة شعرنا العربي، لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا كانت استراتيجية رصينة ومنطقية ووسطية وتؤمن بكون الشعر تعبير إنساني موحد في سائر الأزمان والأمكنة. ولذلك، فإن منطلق أي ناقد أو دارس للشعر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الأسس التالية:
1- إن الشعر كائن لا زمني يخترق الأزمنة.
2- إن الشعر وسيلة للتعبير عن وضع قائم.
3- إن الشعر جوهر إنساني يخترق العارض ويثبت الثابت.
4- إن الشعر لا يعترف بالأشكال وهي عارضة وإنما الأشكال تكون تابعة للشعر.
والخلاصة التي نخلص إليها هي الخلاصة التالية: ليس هناك تفاضل بين شعر عمودي وشعر حديث، وإنما هناك الشعر. فقد يوجد هذا الأخير في الشعر العربي القديم أو الشعر العمودي وقد يغيب عنه، وقد يوجد في الشعر التفعيلي الحديث مثلما يغيب عنه.
2- صورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين:
وأنا أهم-أيها السادة والسيدات- بالمشاركة في الاحتفاء بالشاعر الدكتور عبد العزيز سعود البابطين، ترددت بين أن تكون مساهمتي شهادة في حق هذا الرجل النبيل الذي منح الشعر والشعراء الكثير من وقته، وبين أن تكون هذه المساهمة قراءة في أحد دواوينه المنشورة. وبعد هذا التردد رأيت أن هذا الرجل وشعره متشابكان تمام التشابك، وأنه لا يمكن الفصل بين الشاعر عبد العزيز البابطين الذي رغم كونه من الرجال الناجحين في العمل الحر، نذر حياته للشعر ولكتابته. وليس في ذلك شك، خاصة وأن الرجل صاحب مؤسسة سماها مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، وأنه رغم التزاماته يجمع المئات من الشعراء كل سنتين في مهرجان يخصصه للشعر، وأنه يعلن في كل المناسبات، وهو الذي سلخ أكثر من أربعين سنة من عمره في قرض الشعر أن إقدامه على نشر نصوصه وقصائده الشعرية لم يأت إلا استجابة للآخرين وأنه هو لم يكن يرغب في ذلك البتة. وهذا ما جاء في مقدمة ديوانه بوح البوادي الذي نحن بصدده:
لم يدر بخلدي يوما-ومنذ بدأت رحلتي مع الشعر قبل أكثر من أربعين سنة- أن أصدر ديوانا يضم قصائدي. إذ إنني أعتقد بأن تلك هي مشاعري وأحاسيسي وحدي، ولا حاجة للآخرين بالاطلاع عليها، فهي من خصوصياتي اللصيقة بي، والتي هي ليست بالضرورة نتاج تجربة شخصية، إلا أن بعض الإخوان والأصدقاء وبعض أعضاء مجلس الأمناء لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ألحوا علي بأن أصدر هذا الديوان لاعتزازي السامي بالشعر ولمحبتي المتدفقة للشعراء، فاخترت هذه القصائد التي بين يديك-عزيزي القارىء- من بين المجموعة التي احتفظت بها على مر السنين.. فكان هذا الإصدار الذي سميته ﴿بوح البوادي﴾ لأن الكثير من قصائده قلتها في صحار وبواد عربية وأجنبية مختلفة خلال رحلات الصيد."
* * *
إضافة إلى هذه الخصلة التي يمتاز بها الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، يسجل له أنه كثير الإنصات، بالاستشارة والسؤال، حتى ليخيل لمحاوره أن الرجل لا يعترف بالرأي أو بالقرار ولا يقر له لا هذا ولا ذاك إلا إذا كان صادرا عن جماعة من الناس يطمحون لتحقيق مشروع ثقافي كبير. في هذا الصدد أذكر أنه انتحى بي جانبا ونحن في قرطبة في أكتوبر 2004، ليسألني عن اقتراحي للمدينة وللبلد الذي سينظم فيه مهرجان مؤسسة البابطين في الدورة المقبلة. علاوة عن هذه الخاصية-خاصية التواضع المشفوع بالإنصات التي يحظى بها البابطين خلافا للكثير من صناع القرار الثقافي في البلاد العربية، يفاجئك البابطين بأنه دقيق الملاحظة في الشاذة والفاذة ويمتلك الكثير من الجرأة النقدية في المسائل التي تحتاج إلى التقويم. أذكر أنه واجهني في قرطبة، بعد انتهائي من قراءة قصيدتي "تحولات الإمام علي على مشارف النجف" بملاحظات دقيقة جعلتني-أنا الذي لا أغير حرفا في قصائدي- أستبدل كلمات بأخرى، اقتناعا مني بوجهة نظره السديدة وبرؤيته الثاقبة للأمور الدقيقة.
هذه جوانب وأخرى غيرها كثيرة من الجوانب التي يمتاز بها الشاعر البابطين، والتي تشكل شخصيته، وقد أتيت على ذكرها لسبب واحد، وهو أنني أعتبر أن المدخل الحقيقي لقراءة أي شعر خاصة شعر هذا الرجل هو شخصيته، أولم يقل الناقد الفرنسي بوفون "إن الأسلوب هو الرجل"؟ أولم يقل الروائي الفرنسي فلوبير "إن إيما بوفاري هي أنا"؟
3- مكونات الديوان:
يتألف ديوان بوح البوادي من اثنتي وخمسين قصيدة كلها صيغت في إطار الشكل العمودي. وهي:
الإهداء-منازلكم بعيني-يا نخلتي-اذكريني-حنين-ويبقى الشوق-شقيق الروح-ترانيم-وله-نكأت الجرح-لم أنس-رياح الشوق-أيام الوصال-شكوى-حديث أمسي-الوفاء الخالد-الجمال الناعس-نداء-مشاعر-القلب الظامىء-وهم الوصل-وفاء-جمر الظنون-وتمضي السنون-والهوى ثالثنا-حب قديم-وضاع الدرب-رنين السحر-شكوت النجم-حلم العمر-صمود-شيبت ليلي-وغابت أنجم-أحزان-تباريح-وعود-طعم البين-بدر الليل-سأسلو-في عمق الزمن-عمر ينطوي...
والقصائد كلها جاءت على الأوزان التالية:
البسيط................... 9 قصائد
الوافر....................16 قصيدة
الكامل................... قصيدتان
الرمل....................13 قصيدة
مجزوء الكامل........... قصيدة واحدة
مجزوء الرمل............ قصيدتان
الطويل...................5 قصائد
الخفيف.................. قصيدتان
مجزوء الخفيف.......... قصيدة واحدة
الكتدارك................. قصيدة واحدة
4- دلالة العنوان في بوح البوادي:
لا بد من الإشارة أولا، أن شخصية الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، بسجاياها وصفاتها الحميدة الراقية تنعكس على إبداعه الشعري. وتنعكس أكثر على صياغة عناوين دواوينه التي يختارها. ومن هذه العناوين عنوان الديوان الذي نحن بصدد دراسته: "بوح البوادي".
لا شك أن عنوانا كهذا هو عنوان يوحي بالكثير من المعاني والدلالات. ولتفكيك هذا العنوان يمكن القول إن البوح مرتبط بحالة سيكولوجية لا نجدها إلا عند أناس أسوياء بالغي الذكاء، ودقيقي النظر. وهو إضافة إلى ذلك صفة تجمع كل الصفات الرفيعة التي أمكن للإنسان أن يراكمها عبر العصور، وهي صفات التواضع والمحبة والصدق والكرم والشجاعة...
أما البوادي فهي كلمة قوية المعنى في قاموسنا العربي، وغنية بالإيحاءات والدلالات والظلال.. وتلخص في أدنى معانيها كل قيم البساطة والصدق والعفوية.
5- دلالة الإهداء في الديوان:
ديوان بوح البوادي إذن- كما هو معلن عنه- ديوان فريد في قصائده، وقريب جدا إلى شخصية صاحبه. وإذا كان الشاعر قد أصدره للأسباب السابق ذكرها، أي "إلحاح الإخوان والأصدقاء بأن يصدر هذا الديوان" و"لاعتزاز الشاعر السامي بالشعر ومحبته المتدفقة للشعراء"، فإننا ونحن نتجاوز المقدمة تطالعنا أول قصيدة بعنوان إهداء. نحن إذن أمام شاعر يكتب إهداءه شعرا خلافا للشعراء الآخرين، وهذه ملاحظة لا ينبغي أن تفلت من قبضة أي ناقد.
يقول الشاعر في قصيدة "إهداء"، وهي من البسيط":
(بوح البوادي) أهديه لمن عشقت
صبا كواه النوى في أمسنا وغد
إذ علمتني صنوف الحب طاهرة
كغيمة الصبح، تسمو متعة الجسد

تشكل هذه القصيدة أولى قصائد الديوان، وهي من الناحية الشكلية تعتبر بمثابة الإهداء الذي غالبا ما يأتي في صدر أي كتاب شعري. والدليل على كون هذه القصيدة إهداء أن الشاعر مهرها ووقعها باسمه دون غيرها من قصائده الأخريات، ولم يسجل تاريخ كتابتها كثلما فعل بالنسبة للقصائد الأخريات، شعورا منه بأن الإهداء صالح لكل زمان ومكان، ولا ينبغي تسييجه بتاريخ محدد.
وإذا كانت هذه الأمور من الأمور الشكلية، فإن المهم هو مضمون القصيدة الذي يؤكد على تيمة همت كل الشعراء في كل العصور، وهي تيمة العلاقة العاطفية التي تجمع بين العاشق والحبيبة. إلا أن الشاعر لا يذكر لنا اسما لهذه الحبيبة، مما يترك للقارىء مجالا واسعا للتخمين.
فهل يقصد الشاعر بضمير المخاطبة عاشقة أو امرأة بعينها؟ هل يقصد شيئا آخر غير المرأة، مثل الطبيعة أو الأرض أو الحقيقة أو أي قضية تؤرقه...؟
الشاعر نفسه لا يجيبنا. والقراءة مهما كانت منطلقاتها بلاغية أو أسلوبية أو تاريخية أو نفسية... لا تسعفنا في الوصول إلى نتيجة نطمئن إليها. والتحليل السيميائي باجتهادات مؤسسيه ومطوريه لا يعطينا أي علامة من العلامات التي في إمكانها أن توصلنا إلى حل تشفير القصيدة le décodage، وبالتالي إلى ضفة الحقيقة.
والملاحظ هنا أن الشاعر، بحكم موقعه الاعتباري الخاص، وبحكم ذكائه ورزانته، ولكونه يتصف بالحرص على ألا تنفلت الخيوط من بين يديه، فيعرض نفسه للانكشاف أمام قارىء غير بريء، ظل حريصا على أن تبقى صورته هي صورة الرجل الذي لا يضعف أمام المعشوقة، فيذكر اسمها في ثنايا هذه القصيدة، وفي ثنايا قصائد أخريات، وفي قصائد الديوان كله.
هذا ما لم يستطع الأوائل من الشعراء فعله، وهي خصيصة من خصائص الشاعر عبد العزيز سعود البابطين انفرد بها وسما بها على سائر شعراء جيله.
إنه شاعر يخفي أسماء حبيباته. ويحرص على ألا يعرض بهن. ويحرص على ألا يترك أي أثر لحبه ولوعته. اللهم هذا الحنين الذي تفيض به قصائده.
6- خيمة الحب في ديوان بوح البوادي:
مع ذلك فالديوان هو بمثابة خيمة كبيرة، وضعت خصيصا للإشادة بالحب. وقراءة الديوان تؤكد لنا هذه الحقيقة التي لا تخفيها الغيوم، وهي أن بوح البوادي وإن لم يفصح عن ذلك صاحبه في المقدمة، هو ديوان حب كبير، وحنين عارم لتذكر الحبيبة يكسر جلمود الصخر، وشوق عارم للقائها يجفف الأرض من مائها.
يقول الشاعر في قصيدة "حنين"، وهي من البسيط:
سل وادي الحب واسأل وردة فيه
عن اللقاء الذي لو عاد يرويه
تخضر أرض ويزهو في جوانبه
شيح وينمو الخزامى في روابيه
لقيا تحدث عنها النجم رددها
للقادمات من الأيام في تيه

* * *
لعمري إن هذه القصيدة لمن القصائد المتميزة بروائها ومائها، وبمعجمها الفياض، وبصورها الرائعة. وكأنها انبثقت من عاطفة جياشة وقلب مفعم بالحب.
وهي من حيث الشكل باذخة البناء والجمال. لو عاد الفرزدق إلى دنيانا ووقف عليها لأجاز صاحبها، ولأحرق خيمته ومضى هائما على وجهه.
ويثني الشاعر بقصيدة أخرى تجاورها في القيمة وتنافسها في المكانة، وهي قصيدته "ويبقى الشوق"، وهي من الوافر. يقول فيها:
كما ألف العذاب صميم قلبي
فقد سئم الفؤاد من العذاب
كلا الضدين مرا في دروب
من الألم المعتق والسراب
فلم ييأس فؤادي من وصال
وقد مل العذاب من الحراب
وقد ظنت سنيني أن هجري
ينيخ بشاطئي دون الإياب
ولم تدر السنون بأن قلبي
تجلد للعقاب وللعتاب

* * *
وفي مجال تذكر الحب ولوعته، أبدع الشاعر عبد العزيز سعود البابطين قصائد متميزة منها قصيدته "لم أنس"، وهي من البسيط، يقول فيها:
تقول شوقا: فهل ما زلت تذكرنا
أم نسيت تناجينا وذكرانا
وهل أبادت سنين البعد حبكم
وأطفئت شمعة في درب مسرانا
وبات قلبك من قلبي بمظلمة
أم قد تجمد إحساس لتنسانا
أجبت: لا والذي يرعى محبتنا
لم أنس يوما تناجينا ولقيانا

ومن هذه القصائد قصيدته "شكوى" من البسيط أيضا، يقول فيها:
يهزني الشوق والآهات تنفجر
وتحتويني هموم يوم ذراك
وتعصر القلب آلام مبرحة
يزيدها اليأس إيلاما كأشواك
وينزوي الصبر مشدوها بزاوية
من الفؤاد دهته أنة الشاكي
* * *

ومثلما أجاد الشاعر عبد العزيز سعود البابطين في القصيدة السابقة، نجده يجيد في قصيدته "وهم الوصل"، وهي من البسيط، يقول فيها:
سلي فؤادي إذا ذكراكم خطرت
ولاح في هاجسي طيف يناجيني
وحل ليل أعاني البعد أوله
وبالأواخر وهم الوصل يضنيني
وصار يبعدني ليل الأسى بأسى
وقد ظننت دوام الليل يدنيني

خلاصة:
ثمة إذن خاصية أساسية أولى في ديوان "بوح البوادي" وهي تعلق هذا الديوان بالحياة العربية في تشكيل شعري يروم تحقيق انسجام النص الشعري وتحقيقه للشعرية المتبناة من الشاعر عبد العزيز سعود البابطين. ولا شك أن مما أتاح للديوان أن يتميز انبثاقه من الفكرة القائلة إن الشعر منبعه الوجدان. وثمة من ناحية أخرى خاصية أساسية ثانية وهي تعلق هذا الديوان بتيمة أو بموضوع الحب تعلقا يجعل منه ديوانا في وصف واستكشاف هذه الطبيعة البشرية التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، لكن الشاعر د.عبد العزيز سعود البابطين ليس من أولئك الشعراء الذين يركبون هذا الموضوع ركوبا سهلا، وذلك لأنه حقق في ديوان بوح البوادي مجموعة من الشروط التي ترفع من شأن الشعر وتضعه في موضعه الصحيح. ومن ذلك:
1- أن الشاعر تعامل مع موضوع الحب تعاملا جادا وواعيا، نكاد نقول لقد تعامل مع هذا الموضوع تعاملا أخلاقبا. فهو لم يبالغ فيه كما هو شأن شعراء آخرين، ولم يبخس فيه قيمة الشاعر الإنسان التي تبقى قيمة الشاعر الرمز والشاعر الذي يعبر عن مجتمعه.
2- أن الشاعر وفر كل الشروط الإبداعية لقصيدته من وزن فخم، وقافية سلسة، وصور شعرية بليغة، ومعجم عربي فصيح بنها من التراث العربي.
3- ومن هنا فإن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين بموهبته الشعرية العالية يحتل مكانا ضمن فحول شعراء اللغة العربية، ويعتبر من الشعراء المتميزين خاصة على صعيد القصيدة العمودية في القرن العشرين التي خصصنا لها هذا الدورة الرابعة من مهرجان عكاظ وجدة.
ولا شك أن العرض المتواضع احتفاء بإبداع الشاعر د.عبد العزيز سعود البابطين لا يشكل إلا حلقة من حلقات سنخصصها مستقبلا لدراسة شعره والوقوف على أسسه الجمالية والفنية والإبداعية.



[1] دراسة ألقيت احتفاء بالشاعر د . عبدالعزيز سعود البابطين في مهرجان عكاظ وجدة الدورة الرابعة- -14 و15 أبريل 2005

ليست هناك تعليقات: