إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 13 ديسمبر 2010

في نصوص الروائي أحمد التوفيق


في نصوص الروائي أحمد التوفيق

لقد عنت لي هذه الملاحظات وأنا أقرأ بحث الطالب الباحث الجيلالي الغرابي. ومنذ البداية يبدو لي أن الروائي أحمد التوفيق تستحق أعماله أن تدرس دراسات معمقة. ذلك لأن أحمد التوفيق شكل ويشكل أحد كتاب المغرب الذين يملكون قدرات كبيرة إبداعية على وجه الخصوص. وفي البداية أشير إلى أنه هو صاحب الدراسة القيمة جدا والأولى في الدراسات التي تناولت المجتمع المغربي: وهي " مساهمة في دراسة المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، 1978-1984. وهو صاحب روايات "جارات أبي موسى و"شجيرة حناء وقمر" و"غريبة الحسين" و"السيل". وهو الذي حقق نصوصا تراثية، منها:"كتاب التشوف إلى رجال التصوف".وهو الذي نشر مقالات عديدة في التاريخ الحديث والوسيط وشارك في كتب جماعية وأعمال مترجمة.
وتأتي روايات أحمد التوفيق ومنها "شجيرة حناء وقمر" و"السيل" لتؤكدا على أهمية نصوصه بارتكازها على التاريخ كإطار عام يسمح لها بالتمويه داخل دروبه وحقبه المختلفة، وبالتالي ليدلل لها كل الصعاب للوصول إلى "الحقيقة الروائية". أو كما يقول إدوار الخراط "تأتي الخبرة التاريخية في الرواية من خلال منظور عصري، وفي بنية روائية خاصة، لا بد أن تنتمي إلى عصرها، وأن تسعى إلى تجاوز عصرها في الآن نفسه. ".
ومن هنا يمكن اعتبار روايات أحمد التوفيق بمثابة التاريخ الإبداعي المتخيل، داخل التاريخ الموضوعي المنتظر. والوعي الإبداعي الكاشف عن جوهر مفارقات التاريخ وتناقضاته..
يسعى أحمد التوفيق أيضا في أعماله التخييلية إلى إقامة نوع من المصالحة ّالحذرة" بين التاريخ وبين الرواية، مصالحة تحافظ لكلا الكتابتين على خصوصياتهما:
فالروائي لا يعين الزمن التاريخي الذي تجري فيه الأحداث، إلا عرضا ومن خلال إشارات باهتة. وبفعله ذاك يجنب الرواية صفة التاريخية، ويحافظ للتاريخ على تعاليه، من خلال مؤشرات سيميائية (اللباس –الألقاب-الحلي…).
والروائي لا يحدد الإطار الجغرافي لمجريات الأحداث، بشكل دقيق. وهذا ما جعله يصهر التاريخ والمتخيل داخل بوتقة الرواية. حيث اعتمد التاريخ إطارا عاما، من خلال مزجه بالطابع الأثنوغرافي وتطعيمه برائحة القرن التاسع عشر سواء من حيث الألفاظ المخزنية الموظفة والجاثمة على النص.
والروائي يحاول اقتناص رؤية المتخيل، ورؤية السردي لفترة تاريخية معينة هي فترة (ق 19)، تكون مناظرة لرؤية وموقع المؤرخ، وحاملة لوعي مختلف عن وعي وروح الوثيقة التاريخية.
تشكل رواياته رحلات في البوادي المغربية/الحوز؛ في مناطق لا نعرف عنها شيئا، مناطق المغرب غير النافع. مغرب لم يتبدل. فإذا كان التاريخ يتحدث عن الحواضر، مركز السلطة بشكل واف، ويخفي كل ملامح البادية، فروايتا أحمد التوفيق شجيرة حناء وقمر والسيل تأريخ للبادية والجبل وإغفال للمدينة، وهما، من هذا القبيل، إعادة اعتبار للبادية، وهذه نقطة مركزية في طروحات أحمد التوفيق المؤرخ.
وما يساهم في تشكيل جمالية روايات التوفيق هو تلك اللوحات الإتنوغرافية لمغرب القرن التاسع عشر، وهي لوحات تجهد لتكشف عن خصائص صورة البادية المغربية عن طريق استثمار النظام اللغوي الشفهي، المتمثل في الأشعار واللهجات المحلية؛ وأسطرة الذات بوصفها ذات الجماعة.ومن هنا يأتي التمجيد الروحي والجسدي للشخصيات، في عذريتها وبراءتها، فهو تمجيد لجمال البادية المغربية في نقائها…
وتطغى على نصوص أحمد التوفيق نفحة ثقافية، بمعناها الأنتروبولوجي، لأن المؤلف/المؤرخ يشتغل على التاريخ الاجتماعي، وما دام يعود إلى الذهنية المغربية متمثلة في الديني والسحري والخرافي. لذا وجب التوقف عند دلالة ألفاظ رواياته. ومن أهم الألفاظ عناوين الروايات. فالشجيرة والشجرة عموما كما تتفق أغلب موسوعات الأساطير العربية، تعبير رمزي للتجدد والنمو: "النبات تعبير عن تجربة الخلود والانبعاث والحياة المستمرة". "فلا غرابة أن توضع (الشجرة) في بداية الخليقة. فدلالاتها الرمزية واضحة، فمنها شجرة الحياة وشجرة المعرفة وشجرة الكون. ولكن المعنى الجامع هو معنى الحياة والتجدد والخلود. فضلا عن أنها رمز كوني". وبالعودة إلى القرآن الكريم نجدها قد وردت في ست وعشرين آية.أما لفظة "القمر" فتعود بنا إلى عالم الأساطير.. وكرمز تعود إلى التفكير الأسطوري. ذلك أن العرب من أقدم عبدته، يقول محمد عجينة: "كان القمر إله عرب الجنوب، وهو نفس اسمه عند السومريين. أما لفطة "السيل" فقد ورد ذكرها في القرآن، وهي مرتبطة أشد الارتباط بوضع الإنسان في العالم الدنيوي.
وبالعودة إلى رواية شجيرة حناء وقمر نجد القمر واردا كجرم سماوي، ونصادفه في لوحات خاصة. من هنا محاولة الروائي الجمع بين ما هو متعال (القمر)، وما هو أرضي (الشجرة)، وإن احتفظ هذا الجمع بالرتبة الأصلية المتواجدة في النص الديني، مع تغييب للشمس لتحل محلها الشجرة، ذات الحمولة الدينية، إذ ارتبطت الشجرة بنور الله وبكل ما هو طيب: }الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة{سورة النور، الآية 35.
}ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة{سورة إبراهيم، الآية 24.
في أعمال أحمد التوفيق يعتبر الفضاء عموما، الحيز الذي لا يتحقق، في النادر، سوى على الورق؛ أي عبر نسق معين، وإن كان السرد القصصي يراهن على كينونة الفضاء/الحيز، حيث تنتشر العلامات اللغوية، وتتوزع مترابطة على هيئة سلسلة. مما يجعله يؤشر على المرحلة التاريخية المشعة بخصائص العصر وطوابعه الاجتماعية والثقافية والدينية، إنه أديولوجيم الحقبة، بلغة كريستيفا.
يتميز الفضاء الروائي باستقلاليته الموضوعية، كإطار لمجريات الأحداث، فهو فضاء مبدع، أعاد الروائي إنتاجه وفق عمليات وظيفية، جمالية وإنسانية، طبع بها الروائي شخوصه.
إن فضاء حصن السوق فضاء منغلق على نفسه، فهو عبارة عن قصبة محاطة بأسوار، وداخل القصبة هناك فضاءات مسورة ومحرمة على العامة، المنزه، الرياض. أما السجن، فهو مكان لإحكام القبضة على الأعداء.
على أن علاقة حصن السوق كنسق فضائي مغلق –بلغة بورنوف- في ارتباطها بالنسق الفضائي المفتوح تتحدد من خلال انفتاح حصن السوق على مدن فاس، مراكش، الدار البيضاء وعلى المجهول والبادية.
ومنذ الوهلة الأولى يحس القارئ بذلك النفور من حصن السوق (دلالة الاسم) ومن صاحبه. وإن حاول القائد همو أن يعيد تأثيث الفضاء من جديد سواء بعد زواجه من السالمة أو بعد زيارته لبيت الوزير…
لقد سعى أحمد التوفيق من خلال روايته إلى نقل صورة للبنيات الذهنية والثقافية المغربية، مستفيدا من التاريخ الاجتماعي ومسقطا إياه إلى عالم الرواية، حيث تزخر رواية شجيرة حناء وقمر بالعديد من اللوحات الفنية التي تزيد السرد الروائي عذوبة، إلى درجة أن القارئ يبقى مشدودا إلى قدرة الروائي أحمد التوفيق الوصفية.
وتشكل لوحة الشاي قطعة فنية، تماشيا أولا مع الظرفية التاريخية المتحدث عنها، ولكونها، ثانيا جاءت متساوقة مع السياق العام الذي تسرد فيه الأحداث وهي لوحة تستغرق أربع صفحات.
وتكشف الرواية عن العديد من مظاهر أنماط الوعي والثقافة المشكلة لبنية المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر وفي منطقة محددة روائيا هي منطقة (الحوز) عبر لوحات فلكلورية/ثقافية بالمعنى العام، مثل لوحة إخراج الكنز المتحدث عنها في الصفحات (من 191 إلى 194)، وهي لوحة تنتمي إلى السرد الشفهي المسكوت عنه الذي يعيد له الروائي بفعله هذا الاعتبار.
في روايته "السيل" اختار أحمد التوفيق أن يركز على مسار الشخصية الرئيسية "محمد بيزين" والتحولات العميقة التي طالته، فعلى امتداد 150 صفحة من الحجم المتوسط تسرد الرواية قصة هذه الشخصية، انطلاقا من مسقط رأسه في إحدى قرى الأطلس النائية، التي تكاد تكون منعزلة عن العالم ، فنعرف منذ بداية الرواية أن هذه الشخصية ولدت في ظروف استثنائية من أب عطار و أم خادمة ، وحين يأتي هذا الطفل إلى الدنيا يجد نفسه يتيما ، لا أحد يذود عنه أو يحميه من عدوانية الآخرين و قسوتهم ، ينمو تدريجيا وسط الاحتقار و اللامبالاة ، ثم يكلف برعي البقر إلى أن يشتد عوده فيكلف برعي الغنم ، هذا العمل سيجعله يسيح على وجهه في الأرض بعيدا عن أعين الأهالي المزدرية .. يكبر الراعي و تكبر معه أحلامه إلا أن المكيدة و الغدر يكونان له دوما بالمرصاد ، فيصاب بداء القرع، الذي يجعل طباعه تصبح أكثر حدة، و يغدو قلبه أكثر قسوة تجاه من حوله .. في غفلة من الجميع تربطه علاقة غامضة بامرأة تدعى"لومي " فتصبح مستودع أسراره و أحلامه و فحولته .. يأتي السيل بغتة ، وهو نائم ، فيجرف غنمه ، فيسجن في القرية و يستدعى الدرك الفرنسي ، الذي يبدي تعاطفا معه أكثر مما أبداه أبناء جلدته . يخلصه الدرك من سيده ، فيشرع في الاشتغال لحسابه الخاص ، يستمر في ذلك إلى أن يلتقي برجل تاجر، تتوطد ثقته فيه ،فيأخذه معه إلى المدينة و يبحث له عن عمل عند أحد المعمرين الفرنسيين في معمل مختص في عصر حبات الزيتون.. يجد " بيزين" في عمله و ينجح فيه مما يجعل الفرنسي يقربه منه ، بل و ينقله إلى بيته بإيعاز من زوجته مدام "فيبي" ، لكن اضطرابات في المعمل تدعو الفرنسي لإعادته نحو عمله الأول ، فيعود إليه و قد اكتسب نفوذا و سلطة أكبر.
يصادف هذا الرجوع تأجج حركة النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي ، فينخرط محمد بيزين أو الكابران محمد في هذا العمل من خلال تنظيم حملات لجمع المال للوطنيين ، هذا العمل سيؤدي به إلى السجن والتعذيب ، لكن تدخل زوجة الفرنسي لدى الحاكم ، ستكلل بالإفراج عنه رفقة بعض رفاقه.
يحصل المغرب على استقلاله السياسي و يعود الكابران محمد إلى قريته أملا في أن يتزوج منوش ابنة عشيقته القديمة لومي. لكن أهل دار سيده بعد أن رحبوا به أخذوا منه أمواله وضيعوه بالشعوذة والسحر حتى فقد عقله وأصبح مجنونا لا يحتمل وجوده وخلقته.
وفي الختام يهمنا أن نؤكد على أهمية روايات أحمد التوفيق التي اعتمد فيها الخطاب التاريخي مغلفا بالخطاب الروائي، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، لأنهما يعتمدان تصورا واحدا للزمن، ولأن الخطاب التاريخي المتواجد في النص الروائي، يتشكل حكائيا، بقدر ما يتوخى إقامة علاقة يمرر عبرها موضوعات وأشياء تكون لها صلة بالتاريخ وبالحاضر…

ليست هناك تعليقات: