تحولات يوسف المغربي
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون.
قرآن كريم
الظهر إلى الحائط والرصاصة تنتظر. ليس في ظهرك إلا وشم الإسمنت العربي.
سعدي يوسف
ماذا نسينا في المرآة، ماذا ألقينا في المرآة؟
عباس بيضون
1
في مملكة الوقتِ
تأخذني الريحُ
على كتفيها…
وتتوجني ملكا
يحلم بالكلمات،
في مملكة الوقتِ
تحملني الريحُ
على كتفيها،
فأرى مدنا فارغةً
وأرى صورا
وقرى ضائعة ولغات،
وأرى وطني
يهجره الأحباب
ويسكنه البؤساء،
وأرى كفني
وعليه تصاوير
وعظام ورفات،
وأرى لغتي
تعبرني لاهبةً:
- أأنا المفتون بوقتي
والمرميُّ
على قارعة الأحبار
وأقبية الماضي؟
أأنا الموعود
برائحة الجنة والموتى؟
أأنا سيزيف المخبول؟
أأنا القاتل …
والمقتول؟
2
في مملكة الوقت،
يتربّصُ بي ظلٌّ
لا أبصره
إلا حين أنام،
يتربص بي صوتٌ
يأتيني من خلل الكون
التافه والملعون:
- أولم تؤمن؟
أو لم تؤمن
يا هذا الحفارُ
بأن الأرض بدايتها طينٌ
ونهايتها طين؟
أولم تؤمن
أن سفينة نوح لم تغرق
في بحر مائج؟
أولم تؤمن
أن مدينتنا
ماتت قبل قيامة
هذا العصر المأفون؟
أولم تدخل
في زمن التيه..
وفي زمن الريح…
وفي أوراق كتابي؟
3
يتسلل صوتي
من نرجسة
أو من شجر الدفلى
ويرجُّ كياني:
أنا يوسفُ يا أبتِ
وهم ُ الإخوة باعوني
برغيفٍ
ما علموا
أن الحكمة زادي،
ما علموا..
أن الحكمة
بابٌ لا يدخلهُ
إلا من أوتي
قلبا من حجرِ
أو صلصال،
ما علموا
أن طقوس الروحِ
تموتُ
إذا انتحلت لغة أخرى
غير لغاتي.
4
في مملكة الوقت،
لم يبق لنا
هذا الزمن الأخرسُ
غير النوحِ
وغير الموتى،
لم يبق لنا
غير رقابٍ
أخطأها السيافُ
وغير طيوف الروعِ
وأضغاثِ الأحلام،
لم يبق لنا هذا الزمن الفجُّ
سوى النومِ الهادىْ
تحت ظلال الذكرى،
لم يبق لنا
غير رفاتِ الريحِ
ورائحة الموتى،
لم يبق لنا
غير نعال الماعزِ
نصنعها للأقدام،
لم يبق لنا
غير الصوتِ المبحوحِ
يتلبّسنا في هذي الريحِ
ويهزمنا
إن نحن خرجنا
عن طاعة من لا نهوى،
لم يبق لنا
هذا الزمنُ الأخرسُ
غيرَ البحر الواقفِ
فوق صوانِ الوقت.
5
ممن يستنكفُ
هذا البحر الأجَاجُ
وهذي الريحُ الوثابةُ
في الأحراش؟
ممن يستنكفُ
هذا الوقتُ الذاهب
نحو مرامي التيهِ؟
وممن تضحك هذي الموجاتُ
وهذي الأرضُ الخفّاقةُ كالريح؟
وفي أيّ الأرض ستودعُ
يا صاحبَ رحلي؟
وأيُّ الآفاق ستخذلنا،
بل أيّ الراحاتِ
ستستقبلنا
في هذي الأرض؟
6
زمنٌ هذا
أم زبدٌ
أم حجراتٌ؟!
مدنٌ هذي
أم مقصلةٌ
أم شرفاتّ؟!
قمرٌ هذا
أم أطيافٌ
سلبتنا كلَّ مباهجنا،
ورمتنا في خطوات الريح؟!
أزمانٌ هذا
حطّ على أرضٍ حبلى،
أم سحبٌ تهتفُ للموتِ
وتدني أعماراً
من سرّتها يا صاحبَ رحلي؟
أم وصلات من أغنيةٍ
يتربّصها الموتُ
وتفجأها الريحُ
وتخفيها الرايات؟
7
مدنٌ
سلبتنا التقوى
والنجوى،
سلبتنا
حتى الزمن الضائع
والكلمات،
مدنٌ تمشي
وعلى جثتها
يصحو القحطُ
وتخبو الرايات،
مدنٌ
تمرح في الأرضِ،
وعلى جثتها
يقبع نسلٌ
تصنعه الكلمات،
في صحراء الربع الخالي،
وفي صحراء البحر الميّت
وجبال الأطلس ِ
والأوراس.
8
فيا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ
ومن رائحة الطين
ومن ألواح الموتى.
يا هذا الطالعُ
من أجراس الأقواس
ارفع يدك اليمنى
ارفع رأسك
وانسج
من هذا الوقتِ زمانا
ترفعه
في زمن الخيبات.
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ
ومن أروقة الريح
الماكرة الهوجاء،
مارس لغة الأضدادِ
وحوّل سفر التكوين
إلى سِفر الحكمة والتنويرِ،
فالأرضُ خرابٌ
والطوفانُ الأبلجُ آتٍ
ومناديلُ الأحبابِ توارت
خلف شبابيك حديدٍ
تثقلها أقفالُ
وتكايا وعظات.
9
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقت
كن
كيف تكون،
وتذكّر
ما كنتَ
وما سوف تكون:
لقلاقا
تجذبه الأسماكُ إليها،
أو بلشونا
تدعوه الأرضُ
إلى حجرٍ فيها،
أو تمساحا
يأخذ شكل الموت.
يا هذا الطالعُ
كن كيف تكون.
10
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ
ومن رائحة الطينِ
اخرج من صمتك
في جنح الليل
وفي غبش الفجر،
واقطف بيديك
تعاويذا ومرايا،
وتربّص بالوقت
إذا الريحُ انتبذت
فيك مكانا،
وتمسّك بالجدعِ الضّاربِ
في الأرضِ الموصولةِ بالأحقاب،
وارفع رأسك
لا تخفضها
حتى لو وضعوا العرش
أمامك
أو نثروا الورد،
أو وضعوا الحكمة
بين يديك
أو رفعوالك أعلاما.
11
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ
ومن رائحة الطينِ
ومن ألواح الموتى،
هل تكفيك بلاد
نسيت وحشتها
في هذا الزمن الفجّ؟
هل تكفيك مينيرفا المجنونةُ
إذ تخطو خطوتها الأولى
نحو الحكمة والصمت؟
وهل يكفيك
هوراسُ المخبولُ
وسقراطُ الأخرس؟
هل يكفيك دمي،
هذا المنشور
على حبل غسيلٍ؟
وهل تكفيك حروفٌ
كتبت بمدادٍ ممهورٍ؟
وهل يكفيك المتنبي
التّائهُ في ملكوت الناس؟
وهل يكفيك جريرٌ
والجاحظُ
والأخفش؟
12
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقت.
لا شيءَ يسليك الآن
ولا شيء ترى
في جهة القلبِ
سوى طوفانٍ
سيجيءُ،
ولا شيءَ
يؤصل فيك الفرحةَ
غيرَ نواح الروحِ الثكلى.
فبأيّ الأرضِ ستدفنُ
يا مالك أسرار اللغة الأولى؟
وأيَّ الأكفان ستختارُ؟
وهل في مدنِ الريحِ
على أوتار القلبِ
ستغدو حجرا
أو ذكرى
لمن انهاروا؟
13
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ،
هب أن أمامك أعداءً
هب أن البحر وراءك
صار مدادا،
هب أن الأحجار
تهاوت
فوق رصيف العمرِ،
هب أن مدينتا
لم تنشأ من عدمِ
وأن الشيطان تدخّلَ
في لغة التّأسيسِ
وأسرى بقصيدتهِ
نحو مهاوي من تهوى،
وأن حقول القمحِ
تعالت
فوق رؤوس الحمقى،
وأن نعاج الأمةِ
قد وجدت من يأويها،
وأن رياح الشرق تماهت،
أمن الحكمة
أن نصفق هذا الباب
ونمضي.
أمن الحكمة
أن نصفق هذا الباب
ونمضي؟
14
أمن الحكمة
أن نصفق هذا القلب ونمضي؟
أمن الحكمة أن نبقى
في مقبرة الوقتِ خطايا،
مبتهجين بما كنّا
وبما سوف نكون؟
أمن الحكمة
أن ننسى كلماتلم نكتبها،
أمن الحكمة
أن يسقط هذا الصقرُ
وتعلو الأعلامُ السوداء،
على شرفات القلب،
يا هذا الطالعُ
من أبراج الوقتِ
ومن رائحة الطين
ومن ألواح الموتى،
أمن الحكمةِ أن نمضي
نحو الأرض الخرساء،
وأن نكتبَ
ما لم تكتبه الكلمات،
أمن الحكمة أن ننسج
من أوراق الغيم مرايا،
وأن نصلح
ما أفسده الدهرُ
وما لم يصلحهُ العطّارُ.
15
أمن الحكمة
أن تصفق هذا القلب
وتمضي؟
أمن الحكمة
أن تسمل عين ميدوزا،
أمن الحكمةِ
أن تخفي كلماتِ التقوى
ونبوءة كاسندرا؟
أمن الحكمة أن تبكي وحدك
في الكلمات،
أمن الحكمة أن تصفق
هذا القلب وتمضي؟
16
لك أن تبقى
في رحِم الأرضِ الثكلى
لك أن تبقى في هذا الجبّ
الغارق في الأرض،
لك أن تصرخ:
آهٍ …
ما أبلغ هذا الصمتَ
وما أبهى الصورةَ
يا يوسفُ في المرآة،
آهٍ …
ما أوسعَ هذا الجبَّ
وما أقسى عيشَك
يا يوسفُ..
بين ذويك…
دجنبر 1995
وجدة / المغرب - صلالة/ سلطنة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق