إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 22 مارس 2008

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل 2

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل
الحلقة الثانية
بقلم: د.عبد الرحمن بوعلي


"الإبداع يفترض خلق الجديد... وهو اعتراف بأن الماضي ليس كاملا"
أدونيس

ثمة إذن جيل من الشعراء المغاربة عاشوا المرحلة الأولى، أو بعبارة أخرى، عاشوا فترة التأسيس الأولى بما تضمنته تلك الفترة من لحظات إيجابية أو سلبية، وبما عكسته من دلالات وقيم وأشكال. وليس من شك في أهمية هذه المرحلة الأولى التي حبلت بكل الخطوات النازعة إلى تجديد المشهد الشعري في المغرب، هذا المشهد الذي كان ينوس بين تقليد التقليد والنسج على منوال الرومانسية الغارقة في تمجيد الذات الشعرية.
ومن هنا، فقد كانت مرحلة الستينات مرحلة هامة، فتحت للتجديد آفاقا ورؤى وتطلعات، سيتجمل مسؤولية تحقيقها الجيل اللاحق الذي نطلق عليه جيل السبعينات.
جـيــل الســبـعـيـنـــات:
وإذا كان جيل الستينات، وهو جيل التأسيس، قد اكتوى بنار الهزيمة بعدما أطلق التجربة الأولى من قفصها، فالجيل الذي سيأتي بعده، وهو الجيل الثاني في الترتيب، لن يجد الأرض مفروشة بالورد، ولن يجد الواقع خاليا من الأشواك، بل سيجد الأرض غير الأرض، والثقوب قد اتسعت قليلا.
لقد كانت الهزيمة هي مبتدأه والاستسلام هو منتاه. وقد شكلا هما معا - الهزيمة والاستسلام- علامتين فارقتين في تاريخه الشعري، ومحددين أساسيين في تجربته. ومن المحتمل بل من المؤكد، أن ما سيمنحه الشرعية الشعرية بالأساس هو هذا الموعد الذي ضربه مع التاريخ، حيث بدأت تباشير تفتت الإيديولوجيا القومية تسطع في سمائه، لتنحو به طريقه نحو مفازات أخرى، وحيث ازدادت قناعته بأن لا بديل غير المضي بالقصيدة حيث التحرر الأعمق والأشمل والأكثر جذرية من كل ما يشدها إلى الوراء، وحيث النظر في غير اكتراث لممارسات الماضي وإنتاجاته.
وكما كانت التصدعات والأزمات التي عرفتها الأمة العربية هي المعالم التي طبعت لحظة ولادة التجربة الشعرية الحديثة، كما يذكر كمال خير بك، فإن تسارع هذه التصدعات والأزمات كانت سببا في تفجر إبداعية هذا الجيل، وفي استقطاب هذه الحركة الشعرية لعشرات الشعراء، معظمهم إن لم نقل جلهم رفعوا شعار النقد والتجديد، جاعلين من التفكير النقدي الجذري الأساس والوسيلة لإعادة التأسيس والبناء.
ومن هذه الزاوية الخاصة يمكن القول إن الفكر عند هؤلاء ازداد اتصالا وتواشجا وجذرية مع ما يسميه أدونيس "أسطورة النهضة" التي "تنهض على مجموعة من المسلمات والمسبقات: القومية، الهوية، الوحدة، الذات، الأصالة، روح الأمة...الخ"[1]. وهو الأمر الذي أدى بهذا الجيل كله إلى أن يتبنى " الثقافة الإيديولوجية" التي تقوم -حسب أدونيس- على تبجيل الماضي وتقديسه. وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم التحمس الشديد لشعراء جيل السبعينات للقضايا الأساسية والهامة التي أفرزتها نهاية الستينات وبداية السبعينات. ومن قبيل تلك القضايا، قضايا فلسطين والهزيمة العربية أمام إسرائيل التي أنهت أو كادت التطلع إلى المستقبل، والتفكك العربي، وحرب لبنان، وقيام حركة المقاومة الشعبية والفصائلية... بل وتحمسهم للقضايا التي تبدو ثانوية وثاوية في علاقة الإنسان بالإنسان، أو في الثقافات الوطنية وما هو محلي..
وتأسيسا على ذلك، كانت الكتابة الشعرية الجديدة تغدو استنساخا أو إعادة إنتاج لما هو كائن من المسلمات والأفكار. وتجد هذه الوضعية - السلبية فنيا وجماليا وإبداعيا- تفسيرها في تبعية الثقافي للسياسي، مرة بشكل كبيعي وإيجابي، وأخرى بشكل قسري وسلبي مفروض، ذلك لأن التبعية وخاصة تبعية الثقافة للأمور السياسية يعمق من تخلف الإبداع، أو كما يقول أدونيس "لأن هيمنة الأدلجة دينيا وفكريا تخلق نصا يقينيا، وهذا النص يقرأ ويعاش بوصفه سلطة تأمر وتنهي، وهو نقيض للشعر ونقيض للمتخيل بخاصة"[2]
وعلينا مع ذلك أن نؤكد أن هذا الاتصال الحميمي بالثقافة الإيديولوجية، الواعي وغير الواعي، الذي شغل هؤلاء الشعراء، يشهد على إصرار وتوق هؤلاء الشعراء لخلخلة البنيات الثقافية السائدة. وقد وجد فعل الخلخلة هذا أصداءه في تجارب دالة تبرز إلى حد كبير -حسب جوليا كريستيفا- "الممارسة الأدبية باعتبارها استثمارا واكتشافا لممكنات اللغة في كونها فعالية تجعل الذوات في مواجهة الشبكات اللسانية (النفسية والاجتماعية)"[3]، بل ويعطي للإبداع امتدادا وينسب أفقه الاختلافي الذي تجمله تجربة جيل السبعينات.
من هذا المنطلق الاختلافي إذن، تشكل هذا الجيل الجديد الذي سيوسع تجربة الشعر المغربي، وسيجعلها تتخذ أفقا يتغيى تجديد أبنيته ومواقعه. وقد يصعب علينا أن نستعرض الأسماء التي برزت والتي طورت نموذج الستينات، ولكن من الممكن أن نذكر أسماء نعتقد أنها تركت بصماتها الشعرية واضحة في عقد السبعين، ولا زالت تواصل مسيرتها بعد أن نضجت تجربتها بفعل الممارسة الدائمة والتنقيح والتطوير. ومن هذه الأسماء نذكر: عبد الكريم الطبال، محمد الميموني، أحمد مفدي، أحمد الطريبق، أحمد بلبداوي، حسن الطريبق، ادريس الملياني، عبد الله راجع، محمد الأشعري، محمد بنيس، محمد بنطلحة، أحمد بنميمون، علال الحجام، عبد الرحمن بوعلي، حسن الأمراني، محمد منيب البوريمي، محمد علي الرباوي، محمد بنعمارة، رشيد المومني، الحسين القمري، محمد لقاح، عبد السلام بوحجر، المهدي أخريف، محمد الشيخي، عبد الرفيع الجواهري، مليكة العاصمي، محمد بودويك، أحمد آية وارهام.....
إن هذه الأسماء وغيرها، وهي تخرج من معطف النموذج الستيني، وهي تكسره وتعارضه، وهي تقلده أيضا، وجدت في الأسلوب المعارض-بالنسبة للنموذج الستيني- وفي أسلوب التجديد والتطوير - بالنسبة للخطاب الشعري- الوسيلة الأولى من أجل بناء صرحها الشعري. فكان أن اقتحمت الواقع ومجاهله وخفاياه، ناسجة منه خطابها الشعري، فساوت بين تجربتها في الحياة وكتابتها الشعرية. من هنا، فقد بدت كتابتها الشعرية وكأنها محاولة لنقل ما يجري في الواقع. والحق أن هذا الأمر - وإن كان يبدو إيجابيا في تلك المرحلة- فإنه أكد سلبياته فيما بعد، حيث اتضح أن الإبداع كان أبعد من أن يكون هو الأساس، وكان تراجعه واضحا في مقابل تقدم الأفكار والمواقف والمضامين.
ولعل أهم ما أكدت به التجربة الشعرية ذاتها في هذه المرحلة انفتاحها على تجريب الشعر المنثور، فقد شكلت المرحلة السابقة -الستينات- ونموذجها الشعري عقبتين أمام انخراط الشعراء بكل حرية في القصيدة النثرية، غير أن المرحلة الراهنة شكلت نقلة نوعية، فصدرت دواوين شعرية تحررت جزئيا أو كليا من ثقل التفعيلة، ومن هذه الدواوين: "وجه متوهج عبر امتداد الأزمنة" لمحمد بنيس، و"صهيل الخيل الجريحة" لمحمد الأشعري، و"مشتعلا أتقدم نجو النهر" لرشيد المومني، و"أسفار داخل الوطن" لعبد الرحمن بوعلي...
إضافة إلى هذا، فقد أكد شعراء آخرون ارتباطهم بالمنجز الشعري العربي القديم والحديث، محاولين الاستفادة منه شعريا وفكريا، ومقتفين آثار "النص الغائب" عند شعراء جاهليين وإسلاميين.. وقد برز من هؤلاء شعراء عديدون منهم على سبيل المثال لا الحصر، عبد الله راجع، وحسن الأمراني، وأحمد بلبداوي، وأحمد مفدي، ومحمد بنطلحة وغيرهم...
وفي مرحلة لاحقة، سيبدأ هذا الجيل في بحثه عما يجعله متفردا، وسيجد في القصيدة الكاليغرافية -الموظفة للخط المغربي والتي تزعمها بنسالم حميش ومحمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي- شكلا آخر من أشكال الشعر المغربي، وسيجد هؤلاء في الأصول الأندلسية والمغربية القديمة ما يثبت هذا التقليد/التجديد، ويجعله فتحا من فتوحات هذا الجيل.
ولئن كانت القصيدة الكاليغرافية قصيرة الحياة، ولم تعمر طويلا، فقد تركت أثرها الكبير في الكتابات التي ستأتي بعد ذلك، وقد شكلت دلالة لا يمكن التقليل من أهميتها، ذلك أنها حررت الإبداعية الشعرية المغربية من القيود التي فرضتها عليها أنساق الكتابات الشعرية السابقة، وعلى الأقل، فقد أمدت هذا الجيل- والجيل الذي سيليه- بالطاقة الخلاقة التي تتحقق عند لقاء الحرية بالإبداع، الإبداع الذي كما يقول أدونيس "يفرض الجديد" والذي هو " اعتراف بأن الماضي ليس كاملا"[4].
هكذا، فالتجربة الكاليغرافية، باعتبارها شكلا مغايرا ومختلفا عن النمط السائد والمألوف، أعادت النظر من خلال مجهودات أصحابها في مفهوم الكتابة الشعرية، وذلك بأن أضافت إلى هذه الكتابة "شيئا" لا علاقة له باللغة فحسب، "شيئا" يضرب عميقا في أنطولوجية "الجسد" ووشم "الذاكرة" وحجم "المادة". ولئن كانت هذه التجربة قد فتحت كوة في الإبداعية العربية والمغربية، فقد ظلت -مع ذلك- بعيدة عن تحقيق تلك القفزة النوعية التي غيبتها الظروف السوسيو-ثقافية... إن الكتابة الكاليغرافية وهي تحاول نقل الشعر المغربي من نمط سائد إلى نمط جديد، ومن طور منجز إلى طور لم ينجز بعد، ظلت حبيسة مطرقة الشعارات المنادية بحرية الإبداع والتحرر من قيوده، وسندان الالتزام بالإبداع وقيوده. ومن هذه الزاوية، فإننا نعتبرها حركة تغيت تقويض ما هو ثابت في الفكر وفي الحياة والإبداع، لكن هيمنة الصوت الواحد فيها -باعتبار الشعر تعبيرا عن إيديولوجيا- وامبرياليته أيضا، فقد أضعفت هذا الامتداد الإشعاعي للشعر الكاليغرافي، فاختزلت بناءاته التأسيسية باسم الحفاظ على وحدة إيديولوجية، أو باسم الحفاظ على الواحدية الإبداعية، مؤدية يذلك إلى ما يسميه أدونيس مرة أخرى "بلاغة الإلغاء"[5].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أدونيس - النظام والكلام- دار الآداب، ص 26
[2] نفس المرجع السابق، ص 124
[3] جوليا كريستيفا- ثورة اللغة الشعرية، ص 63
[4] أدونيس- النظام والكلام، ص63
[5] نفسه.

ليست هناك تعليقات: