إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 2 مارس 2008

شعرية الإيمان في ديوان بؤرة الروح

شعرية الإيمان في ديوان بؤرة الروح
للشاعرعلي فهيم زيد الكيلاني
[1]
د.عبد الرحمن بوعلي

مدخل:
بؤرة الروح هو ديوان شعري للشاعر الأردني علي فهيم زيد الكيلاني[2]، الذي ولد في مدينة السلط عام 1931 وعاش فيها في بداية حياته يعشقها ويهيم بروابيها ولياليها الساحرة. الأمر الذي فجر فيه مشاعر الصفاء والنقاء العجيبين، وترك في نفسه أثرا ظل يصاحبه ويواكبه إلى أن أفضى به إلى دائرة الشعر والتأمل في قضايا الإنسان المصيرية. ولا عجب أن أن ينتج شاعر كشاعرنا هذا ديوانا يسجل فيه كل ما يعتمل في فكره وعقله من أفانين التأمل، سواء فيما تعلق بقضايا وطنية ظلت إلى الآن تشكل مهامز تدفعه إلى التفكير أو في ما يتعلق بالقضية الكونية الكبرى: قضية الوجود الإنساني والوجود الإلهي وما بينهما من علاقات ووشائج.
ديوان بؤرة الروح كان نتاجا لشاعر مغرم بالتعلق حد التفاني بخالقه سبحانه. لذلك فهو مفعم بالروح الإيمانية التي تصاحب المسلم المؤمن، وتوجهه أينما سار وارتحل. ومن هنا عن لنا أن نوافيه بهذه الدراسة في إطار هدا الملتقى الذي تخصصه رابطة الأدب الإسلامي العالمية للأدب الإسلامي الأردني في المغرب تحت شعار" نحو رؤية أدبية حضارية".
عناصر القراءة الشعرية:
الخطاب الشعري بشكل عام خطاب معقد ومتشابك. وهو خطاب تظهر فيه الفعالية التصويرية بأقصى درجاتها للرؤية التي يتبناها الشاعر. وغاية دراسة المجموعة الشعرية بؤرة الروح للشاعر الأردني علي فهيم زيد الكيلاني هي الوقوف على تجربة شعرية متميزة، وإظهار توليد البنية التصويرية للرؤية الإيمانية التي يتكشف عنها الديوان. هذه الرؤية التي عالم من القيم والمشاعر بتكريسها لمختلف الأصناف التي تحدد الممارسة الشعرية للإدراك الحسي.
ولا شك هذه القراءة التي أبسطها أمامكم ليست إلا محاولة لاستثمار نوع من التحليل الشخصي الذي يستفيد من تكويني المنفتح على القديم والحديث أولا، ومن تجربتي الشخصية الشعرية والوجودية والقرائية، وأكثر من ذلك، فهي قراءة استجابت لرد فعل عن كثرة المقاربات النقدية للنص الشعري التي اتخذت من الحداثة والحداثوية مطية سهلة، دون أن تفيد العملية الإبداعية، بل ودون أن تصل إلى مستوى المقاربات النقدية القديمة والتقليدية التي ظلت وفية للنص الإبداعي.
من هنا، ومن دون أي ادعاء يمكنني أن أطرح هذه القراءة كعمل تطبيقي، لفكرة أن أحاول أن أضع لها الأسس النظرية بغية تحقيق هدف مزدوج:
1- تطوير الممارسة النقدية العربية في مجال شعرية الأدب التي يعيقها أمران:
أ- الارتباط الأعمى بالغرب،
ب- وقلة الاعتماد على الذات الإبداعية.
2- تثوير العملية الإبداعية، بما في ذلك الكتابة الشعرية التي لم تعد في جزء منها تستجيب للظروف والمتغيرات وتبدلات الواقع السوسيو-ثقافي العربي الذي يمتلك من الخصوصيات القوية والمتنوعة ما يجعله يتميز عن واقع الغرب.
إن هذه القراءة يقودها شعور بإخفاقنا حتى على مستوى التعبير عن كياننا وعواطفنا وأحاسيسنا. وهي لذلك، تحاول أن تركز على عنصرين أساسيين:
1- عنصر الشاعر كمبدع وكإنسان، بما يمثله في الكون، أي باعتباره مخلوقا، ثم خالقا للنص، ثم متقبلا للنص.
2- النص الشعري، باعتباره منتوجا أدبيا إنسانيا متضمنا لعنصرين مترابطين أو منفصلين، هما: عنصرا المضمون والشكل. والمضمون والشكل، كما درجت الدراسات النظرية والنقدية، قد يكونان ملتحمين إلى حد الذوبان والتماهي، فيعطيان بنية نصية تكون نتاجا للفاعلية الشعرية من جهة، ومن جهة أخرى تعبيرا عن رؤية متكاملة للعالم، تجسد الأفكار والأحاسيس والعواطف والمقاصد. وحين يصل النص الشعري إلى هذا المستوى من الخلق، يصبح معبرا عن الرؤية التي تتجسد في إطار العصر. ويصبح أيضا نصا محايثا للعصر. بمعنى آخر، هذا هو النص الذي يمكن الالتفات إليه واعتباره نصا بكل ما في الكلمة من معنى.
وفي حالة انتفاء التجانس بين المضمون والشكل، نكون أمام نص فاقد لمعناه، نص لا يمكنه البتة أن يمتلك الفاعلية الشعرية التي هي من أكثر الفاعليات التصاقا بالخلق الأدبي، وبروح الإبداع الحي، وبدواخل الانسان المفعم بالقيم. ولا يمكنه أيضا أن يعبر عن رؤيته للعالم لسبب بسيط وهو افتقاده لأسباب وجوده هو.
وفي مثل هذه الحالات، نكون أمام نصوص لغات، لا مضمون لها، أو أمام مضامين لا لغات لها. وبالمفاهيم اللسنية نكون أمام دوال بدون مدلولات، أو أمام مدلولات فاقدة للدوال. ومثل هذا النوع من النصوص الشعرية وإن كانت تجد المنابر والمطابع التي تروج لها على نطاق واسع، لا يمكن أن تصمد طويلا أمام الذائقة الفنية.
دوائر الشعر: النماذج الشعرية الأربعة:
وإذا تصفحنا ما وصلت إليه النماذج الشعرية العربية التي امتلكت أصولها وقواعدها الشعرية، أي شروط وجودها وانوجاده وموقعها، فإننا نستطيع أن نميز في هذه النماذج الناضجة والمعبرة بين عدة مستويات من التعبير الشعري، قياسا لنماذج الوعي الفني والوجودي الذي يمتح منه شعراؤها باختلاف مشاربهم. ومن بين هذه النماذج يمكن أن نؤكد على أربع منها:
1- الشعر التقليدي العام ويقابله الشعر التقليدي الإيماني.
2- الشعر الحديث العام ويقابله الشعر الحديث الإيماني.
وكأمثلة على ذلك، يمكن أن نستشهد بالنماذج التالية:
1- نموذج الشعر التقليدي العام، ونمثل له بقصيدة يا دجلة الخير[3] للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري التي يقول فيها:
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير، يا أم البساتيـن
حييت سفحك ظمآنا ألوذ بـه لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
2- نموذج الشعر التقليدي العام ، ونمثل له بقصيدة الله والعقل[4] لشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي التي يقول فيها:
إذا طغى العقل على ربــه فالعقل معناه هـو الجهــل
يعترض العقل على خالــق من بعض مصنوعاته العقـل
إن بان فضل العقل في صنعه فصانع العقل لـه الفضــل
عبدتــه لم أدر ما كنـهـه والجزء هل يعرف ما الكل
لم أدر إلا أنه خـالقـــي وأنني لشمســه ظــــل
3- نموذج الشعر الحديث العام، ونمثل له بقصيدة لم يتغير شيء[5] للشاعر العراقي سعدي يوسف، التي يقول فيها:
لم يتغير شيء
ما زال أبي يكدح بين النخل وماء المدرسة،
الناس يقولون...
ولكني أعرف نفسي خيرا حتى من نفسي،
مثلا:
أنا أعرف ما لا تعرفه الصحف المأجورة،
أو أني أعرف أن أتأمل في الشاطئ
أعرف أني أعرف أن أتأمل في ذرات الرمل
وفي ما يقذفه البحر، قواقع أوعشبا
أو أسماكا ميتة،
.........
........
...........
لم يتغير شيء.4- نموذج الشعر الحديث الإيماني ونمثل له بقصيدة صلاة إلى أرض الأفغان[6] للشاعر المغربي حسن الأمراني، التي يقول فيها:
حملوا لك هذا الوباء-الوبال
رشقوك بنصل السموم
وعز عليهم بقاؤك
خارج دائرة الاشتعال.
أنت تشتعلين؟ فمرحى إذن.
ذاك أن اشتعالك درب إلى النور
أذكر إذ أنت عاشقة لاجتياز المسافات
عاشقة للتغرب تحت المطر
حططت الرحال
وعانقت صاحبك العربي.
بباريس في ﴿عروة﴾ لا انفصام لها.
دراسة ديوان ﴿بؤرة الروح﴾:
بعد هذه الملاحظات الأولية التي طرحنا فيها تصورنا عن الشعر العربي، وهو التصور الذي قد يكون شخصيا، وقد يكون قابلا للمناقشة والتصويب، أسمح لنفسي بأن أدرج ديوان بؤرة الروح للشاعر الأردني الكبير علي الكيلاني في جزء كبير منه، إذا تجاوزت القصائد النقدية القادحة في شخصيات شعرية نكن لها كل الاحترام من أمثال محمد مهدي الجواهري الذي أخذ نصيبا لا يستهان به من القدح، ضمن ما أسميته بالنموذج الشعري الإيماني الذي يقوم على أسس عقدية إيمانية واضحة، ويجسد رؤية إيمانية لا تخطئها عين الناقد المتفحص.
وقبل أن ندخل إلى عالم الشاعر علي الكيلاني الإيماني، يجدر بنا أن نعطي ولو لمحة مختزلة عن هذا الديوان، وسنبين من خلال ذلك جليا أن بؤرة الروح يضم قصائد أخرى عديدة لا يمكن إدراجها ضمن الرؤية الإيمانية، ولعل ذلك يبرز بوضوح أن الشاعر، وهو في غفلة عن عالمه الإيماني الذي ينشده، وهو يعيش أيضا دوامة الحياة الدنيا بمتاعبها وإشكالياتها، يجد نفسه وسط الجموع الغفيرة المشكلة من العامة، مثله مثل الذوات الحية الأخرى، مغموسا في طين اليومي ومهاترات اليومي. هذا ما تؤكد عليه القصائد التي رأيت أنها لا تنتمي إلى عالم الرؤية الإيمانية، باندراجها ضمن النموذج الشعري التقليدي العام.
ومن خلال النظرة السريعة، يبدو أن ديوان بؤرة الروح، الصادر في 304 صفحة من القطع الكبير، يتضمن القصائد التي اختار الشاعر أن تكون فيه. فهو يفتتح بمقطع شعري بعنوان من أنا؟، وبإهداء ومقدمة وهي عبارة عن مجموعة من الآراء الفكرية والنقدية تؤكد كلها على أهمية الديوان، وبقصيدة بعنوان من أين أبدأ؟ . هذا الجزء الذي جاء في 26 صفحة، أعتبره مجموعة من العتبات النصية تمارس حوافز تستفز على القراءة، وتشير إلى مرجعية الشاعر الإيمانية، وتغري باكتشاف النسق الشعري في الديوان.
عتبات بؤرة الروح:
نستطيع أن نؤكد أن كل نص له عتبات، حتى وإن كان العمل الأدبي خاليا منها. والعتبات في الكتابة الشعرية لها من الأهمية ما يجعلنا نضيفها إلى الكتابة الشعرية نفسها، ولها من الأهمية أيضا ما يجعلها تشكل المفاتيح والمداخل لقراءة النص الشعري. وفي حالة ديوان بؤرة الروح فمن الجلي أن عتباته كثيرة، وهي من الدلالة بمكان، ما يجعلها تغنينا عن قراءة النصوص ذاتها. ومن الجلي أن لوحة الغلاف والإهداء، والمقطع الشعري ﴿ من أنا؟ ﴾ الموضوع في صدر الديوان، والمقدمة التي قدم بها الشاعر لعمله، كل ذلك من الأهمية بمكان في عملية قراءة النصوص وفهمها وتأويلها. بل إن فهم الديوان أو تعمق محتوياته يمر أولا من فهم وتعمق هذه العتبات.
وبالنسبة لغلاف الكتاب، فالملاحظ أنه يتضمن العنوان بؤرة الروح، وهما كلمتان لا ثالث لهما، مضاف ومضاف إليه. أما اللوحة فهي مكونة من منظرين: منظر أرضي وآخر سماوي، تفصل بينهما عين كبيرة مفتوحة تتوسط الغلاف. والملاحظ أن المنظر الأرضي يميل إلى القتامة والسواد، وأن المنظر السماوي يميل إلى الاحمرار. والملاحظ أيضا أن وجود غيوم أسفلها يميل إلى اللون الأسود، والقسم الأعلى منها يميل إلى الاحمرار. ولا شك أن هذه اللوحة من خلال تكوينها ومكوناتها، تحيلنا إلى جانبين من الحياة: الحياة الدنيا ﴿ المنظر الأرضي ﴾ والحياة الأخرى ﴿ المنظر السماوي ﴾. ولا شك أن لون اللوحة، أو على الأصح لوني اللوحة ﴿الأسود والأحمر﴾ يضيف دلالة أخرى إلى الديوان.
أما العتبة الثانية، فهي المقطع الشعري المفتتح للديوان: من أنا؟ وهو المقطع الذي يقدم الشاعر كما يرى هو نفسه، وكما يمكن أن نراه نحن من زاوية النظر الإيمانية. فهو العبد السيد، وليس السيد العبد، العبد لله والسيد في الحياة، وليس السيد لنفسه والعبد للحياة والشهوات.
أما الإهداء فهو عتبة ثالثة. والشاعر هنا لا يهدي الديوان لشخص ما يكن له المودة والاحترام، ولا لقريب من الأقرباء تربطه به أواصر أو وشائج القربى، ولكنه يهديه "إلى الصفوة من أبناء الأمة، هؤلاء الذين ملأت الحقيقة نفوسهم والحق قلوبهم.. الذين يشقون طريقهم في الظلمة الحالكة..." وهذا معناه أن الشاعر يختص فئة معينة من فئات الناس بإهدائه، وليس الكل، هي فئة المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله تعالى صباح مساء.
أما المقدمة فهي بدورها عتبة رابعة، تؤكد على أهمية الكلمة، والكلمة الطيبة على وجه الخصوص، تلك الكلمة التي ورد فيها قوله تعالى " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة".
والكلمة الطيبة، في نظر الشاعر ومفهومه، هي الكلمة الفاعلة التي تعكس صورة حقيقة الإنسان لا ظاهره، وتكشف ما تنطوي عليه نفسه من مكنوناتها. وهي الكلمة الصادقة، أي الكلمة الموقف، إذا نطق بها الإنسان كان مسؤولا عنها، وإذا سجلها بقلمه ويراعه كانت مسؤولية أعظم. وهي الكلمة الأمانة، وكما قال تعالى:" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان". والكلمة الشعر أبعد التعبير أثرا وأعظمه خطرا.
لا مراء إذن إذا قلنا بعد كل هذا، أن كل ما ييسر لنا الطريق إلى ديوان بؤرة الروح، هو هذه العتبات من الإيمان القوي الذي لا يتزعزع من أثر أي مزعزع. ولا شك أن الشاعر وهو يفتتح بها الديوان، حتى وإن لم يكن من وراء بسطه أمامنا هدف يقصده، فهي تؤشر لنا على دلالة الديوان الإيمانية، وعلى توجه الشاعر الذي لا يرى في الخلق الشعري مجرد تعبير وكفى، وإنما يرى أنه رسالة حملها الإنسان، لينبه ويوجه، وليؤسس وليبني.
بناء ديوان بؤرة الروح:
علاوة على هذه العتبات التي أشرت إليها للتنبيه على أنها من الأهمية بمكان، لأنها تشكل مفتاحا لما سنقرؤه في الديوان، يضم الديوان سبعة أقسام، ولا شك أن الرقم سبعة له من الدلالات ما يجعلنا ننتبه إليها.
أما الأقسام السبعة فقد جاءت كما يلي:
o نفحات إيمانية، وتتشكل من مجموعة من القصائد الإيمانية بامتياز،
o مشاعر إنسانية، وهي الأخرى تتضمن قصائد ذات رؤية إيمانية، وأخرى تنبع من رؤية إنسانية.
o شجون وطنية، وهي قصائد في الوطنية.
o وجدانيات وغزل
o رثاء وتعزية
o نقد وتصويب
o نفثات.
ويتبين من خلال تتبعنا لقصائد هذه الأقسام أنها جاءت قصائد متباينة الأغراض والموضوعات والأشكال، بل ومتباينة في التوجهات والآراء التي يعبر عنها الشاعر. بل والأكثر من ذلك أنها تخلق عند القارئ نوعا من البلبلة والحيرة إزاء بعض التناقضات الفكرية المتعارضة النابعة عن تقييم الشاعر، ولعل مرد ذلك إلى وقوع الشاعر في بعض الأحايين أسيرا لنظرة انفعالية، هي ربما متأتية من مرارة الواقع الذي يعيشه ويعايشه.
وإذا كان هذا هو تقييمنا لقصائد الشاعر في بعض جوانبها، وهو تقييم لا ينقص لا من تجربته الإبداعية أو تجربته الإيمانية التي عبرت عنها قصائده في مجموعها، فإن قصائد القسم الأول من الديوان، نفحات إيمانية، جاءت لتجسد رؤية الشاعر الإيمانية، ولتعبر عن إمكانية خلق بناء شعري إيماني، يهدف إلى غرس الروح الإيمانية في قارئ الشعر العربي. ومن هنا فالذي يهمنا أن ندرسه قبل غيره هو هذا الدفق الإيماني الذي ميز به الشاعر نفسه، وتميزت به قصائده عن قصائد غيره من الشعراء. ولذلك فإضافة إلى قصيدتين من مشاعر إنسانية، يأتي في أولوياتنا، هذا القسم الذي بدا لنا أنه يغمره الإيمان القوي بالعظمة الإلهية المتجسدة في عظمة الكون وخالقه، هذا الإيمان الذي يتكشف من خلاله ضعف الإنسان وهشاشته أمام هذه القوة المتأتية من الله عز وجل.
وتضم قسم نفحات إيمانية القصائد الثلاثة أما الرابعة والخامسة فهي من مشاعر إنسانية:
1- بؤرة الروح، ص 29/ص46.
2- نشوة الروح، ص 47/ص52.
3- هجرة الروح، ص53/ص64.
4- زنزانة الروح، ص88.
5- صدى الروح، ص110.
وفيما يلي لمحة وجيزة عن هذه القصائد:
1- بؤرة الروح: وهي تعبير عن موقف الإنسان الذي يؤمن بالله تعالى، وبحقيقة الوجود المؤدي إلى يوم الحساب.
2- هجرة الروح: وهي تعبير عن موقف الإنسان المؤمن بربه، فيها يتجلى الموقف الإيماني بأجل صوره، وفيها يعبر الشاعر عن نفسه المطمئنة بقدرها، والساعة إلى ملاقاة ربها.
3- نشوة الروح: وهي تعبير عن موقف الشاعر الذي يجد نفسه في موقف من أسمى المواقف الوجودية، ساعيا إلى ربه، مؤديا مناسك العمرة. والشاعر يقف بإجلال وخشوع أمام عظمة وقدسية المكان الذي تجلله أجواء الخشوع والرهبة، وهو يبث لواعجه وأشجانه.
4- زنزانة الروح: وتتشكل من مجموعة من القصائد الإيمانية، هي على التوالي: نداء: وهي كلام الروح السجينة في البدن. أعراض: وهي تعبير عن حدود البدن، وتحقق التوازن بين الروح والبدن الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان. تعرية: وهي كشف عن حقيقة الإنسان. تجلية: وهي تأمل في الله وخلقه لمكونات الإنسان من قلب ونفس وعقل، الذي هو في حقيقته تكريم للإنسان... ثم هناك عناوين أخرى، مثل الإنسان، والطين، وحول، هباء، مهين، وكلها مقاطع حول الإنسان وأحواله المتغيرة التي قبل أن تنتهي بالموت تمر بمراحل قوة، واستقواء، ومحن وتشك.
5- صدى الروح: وهي قصيدة يتحدث فيها الشاعر عن الذات، ذاته هو أولا، ويتأمل فيها حياته وأعماله، ويتأسف فيها عما حصل فيه من تغير وتبدل:
كنت في عشي هزارا أتغنى للحياة
للهدى للنور للحب شجي النغمات
كنت أشدو بالأماني فتهاوت أمنياتي
ولعل أهم ما يوجد في القصيدة هو تلك الأبيات التي خصصها الشاعر للحديث عن تأديته لمناسك الحج، وما انكشف من مشاعر الإيمان وهو يقف ذلك الموقف في ذلك المكان المقدس الطاهر.
" بؤرة الروح" نموذجا للرؤية الإيمانية:
إذا انتقلنا من النظرة الشمولية لديوان بؤرة الروح الذي يحق لنا أن نعتبره من الشعر القوي لغة وأخيلة وصورا وتركيبا، لنتصفح نموذجا دالا من قصائده، وهو يتجسد في نظرنا في قصيدة بؤرة الروح الذي سمي الديوان باسمها، فإننا لا محالة واقفين على أهم ما يتميز به الشاعر علي الكيلاني كشاعر مبدع أولا، وكشاعر يحمل قضية تقض مضجعه وهي قضية الإيمان، وكشاعر يتواصل مع جمهور متذوق للشعر. ولا شك أن كل من سيقرأ بؤرة الروح سيقف على حقيقتها كقصيدة تمثل إحدى الشجرات الشعرية العالية القمة التي تنضاف إلى إلى شجرات الشعر العربي الرصينة والقوية والمتماسكة.هذه حقيقة لا نشك في صدقها. فالقصيدة مبنية وبشكل مترابط على شكل القصائد الأخرى، في شكل قصائد تتالى وهي ترسم بناء شامخا من التشكيل الشعري الأخاذ، والرؤية الإيمانية الصادقة.
وتتكون بؤرة الروح من سبع قصائد هي: جلاء، هيمنة، سراب، الحق، البؤرة، الحقيقة، إنابة.
فجلاء، تعبير عن موقف المتسائل الذي يخضه وجوده في مجتمع يعيش غريبا عن قيمه الأصيلة، فتنطرح عليه تلك الأسئلة الصعبة التي لطالما رددها الفلاسفة والمفكرون، من قبيل: إلى أين السفر؟ وهل لدينا ما يشفع لنا عند ربنا؟ وكيف نمضي خلف من لا يرتجى؟....الخ.
وهيمنة، تعبير عن موقف من يعود إليه وعيه الإيماني في وسط لا إيمان له أوفيه، رغم العلامات المؤكدة والمثبتة لوجود خالق أقوى.
وسراب، تعبير عن موقف من الإنسان الفاقد للوعي الإيماني، الإنسان الذي يجري وراء مصير لا يعلمه.
والحق، تعبير عن موقف من الإنسان الذي يعتبر، لكنه مع ذلك يتبع غيه.
والبؤرة تعبير عن موقف نهاية الإنسان، وهي نهاية الموت المحتوم، والقدر الذي لا مفر منه.
والحقيقة تعبير عن طبيعة الوجود البشري، هذا الوجود السراب الذي يلفنا بغلالاته وحجبه المتكاثفة.
والإنابة تعبير عن أمنية يتعلق بها الشاعر وأي إنسان أيما تعلق، وهي أمنية عودة الإنسان إلى الوعي بذاته وبوجوده وبخالقه.
ولا شك أن هذه القصائد السبع ﴿ ربما قياسا على المعلقات السبع﴾ تصب في مجرى واحد، هو المجرى الإيماني الذي يحتفي به الشاعر أيما احتفاء. وهي بلا شك تمثل "خلاصة التجربة الحياتية والشعرية للشاعر علي الكيلاني، بما يعتمل فيها من أفكار عميقة ومعاني سامية وصور أخاذة وعبر دالة وحكم بليغة، نراها ونحن نطالع تلك البؤرة التي من خلال شفافيتها ورقة جلائها وجلالها وصقلها نرى تلك الروح الإنسانية المعذبة والتي رغم رقتها اللامحدودة تحمل على كتفيها بل على جناحها شعرها من هموم العالم وأحزانه ما تنوء به أشم الجبال"[7].
إن قصيدة بؤرة الروح والقصائد الأخريات التي أشرنا إليها، هي أقصى درجات الحس الإيماني التي يحاول شاعر أن يوزعه على قصائده. ولعل من يقرأ هذه القصيدة وأخواتها من قصائد الديوان الأخرى، يدرك بأنها نغم إيماني متواصل، وفيض من الروح الأمينة على رسالتها في الحياة، الصادقة مع أمتها والفاتحة لآفاق رحبة أمام عودة الوعي للشعر العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نص المداخلة التي ألقيت في ملتقى الأدب الإسلامي الأردني في المغرب تحت شعار: "نحو رؤية أدبية حضارية" من 23 جمادى الأولى إلى 3 جمدى الثانية 1427هـ الموافق لـ 20 يونيو 2006م المنظم من رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
[2] للمزيد من الاطلاع على حياة الشاعر انظر كتاب: حسن علي المبيضين، علي فهيم زيد الكيلاني: حياته وشعره،2005.
[3] محمد مهدي الجوامري،يا دجلة الخير، من كتاب قصائد من الشعر العربي في العراق، إعداد ماجد الحكواتب، مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، مطابع الملك، الكويت 2004 ، ص 127.
[4] أحمد الصافي الصافي النجفي، الشلال دار العلم للملايين، بيروت1962 ، ص37.
[5] سعدي يوسف، لم يتغير شيء، الأعمال الشعرية، الخطوة الخامسة، دار المدى2003، ص 93.
[6] حسن الأمراني، الزمان الجديد، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط 1988، ص85.
[7] علي مصطفى الدلاهمة، ديوان بؤرة الروح، ص 13.

ليست هناك تعليقات: