دور الصحافة في بناء المغرب العربي
د.عبدا لرحمن بوعلي
مدخل:
لا أحد يشك اليوم في أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام بصفة عامة والصحافة المكتوبة بصفة خاصة في التعريف بالقضايا الكبرى في عالمنا المعاصر، فالدور الذي يقوم به الإعلام دور كبير جدا، وتأثيراته على تطور الأفكار وإشاعتها لا يمكن تجاهلها. وفي هذا الإطار ، ساهمت الصحافة ،كما حدث في العقود الأخيرة وفي مرات عديدة ، في الترويج لإيديولوجيات ورفعها إلى درجة ومقام اليقينيات، كما ساهمت أيضا في هدم إيديولوجيات أخرى وجعلها تختفي من الساحة تماما. ومن ثمة تأخذ الصحافة كل قوتها، وتصبح سلطة مؤثرة بشكل كبير في الأحداث الكبرى، وفي توجيه مسار التاريخ.
ويجدر بنا ونحن نؤكد هذه الحقيقة، أن نتساءل عن الصحافة المكتوبة وعن دورها في قضية كبرى مثل مشروع تحقيق "المغرب العربي" الذي ظل إلى حد الآن مجرد فكرة لم يتحقق لها النجاح.وإذا كان واقع هذه الصحافة، بالارتباط مع تحقيق هذا المشروع الكبير، وبالارتباط مع قضايا أخرى أيضا، لم يحقق النجاح المطلوب، فإن ذلك يرجع إلى واقع الصحافة الذي يتأثر بمجموعة من الأسباب ويرجع إلى الظروف التي تعيشها الصحافة والصحفيون بالدرجة الأولى.
وفي هذا المقال سنتناول الواقع الصحفي الهش كما يراه المثقف المغربي، والأسباب التي كانت وراء غياب التعامل الفاعل مع فكرة "المغرب العربي الموحد" وتجسيدها، وسنحاول طرح بعض الآليات والتوصيات التي يمكنها أن تطور تعامل الصحافة مع موضوع"بناء المغرب العربي".
I - المشهد الصحفي: الواقع والإكراهات:
لنبدأ أولا برسم المشهد الذي تحفل به الصحافة، هذا المشهد الذي يبدو هشا، فهو الكفيل بجعلنا نتأكد من حقيقة أولية وواضحة تتخلص في أن الصحافة، بالرغم من أنها تشكل سلطة مستقلة ،لم تستطع أن تتجاوز الأعطاب السياسية ، فظلت تعيش على هامش الأحداث. وبتعبير آخر فقد ظل الخطاب السياسي مهيمنا وطاغيا إلى الحد الذي جعل الصحافة تتراجع إلى الوراء. وصار بالإمكان جدا أن يتحدث الصحفيون والصحافة عن كل شيء إلا عن المغرب العربي. ولعل محاولة استرجاع ما تكتبه الصحافة يبين بالملموس الهامش البسيط الذي يخصص لأخبار المغرب العربي. بل إن هذه الأخبار لا تتعلق في الحقيقة بالمغرب العربي، بقدر ما تتعلق بأقطار المغرب العرب العربي. ولعل الفرق واضح بين الحديث عن المغرب العربي والحديث عن دوله. وهو الأمر الذي يجعلنا نستخلص أن الفكرة العامة للمغرب العربي ووحدته (لا نقول السياسية، فذلك أمر بعيد التحقق) لم تنضج بعد، ولم تجد صياغتها اللازمة، وذلك على الأقل ما يعكسه الواقع من جهة وما تعكسه تعكسه الصحافة الوطنية باختلاف مشاربها وتوجهاتها من جهة أخرى.
ولعل ما يهمنا من هذه الخلاصة، أن الوضع الصحافي في المغرب في تعامله مع فكرة المغرب العربي (خاصة من خلال صحفه الأساسية) هو وضع غير سليم، بحيث يمكن تسجيل حقيقة أولية وهي أن الصحافة لم تستطع أن تكون مؤثرة بالشكل الصحيح والمطلوب، ولم تستطع أن تتفاعل مع أهمية المشروع المغاربي الطموح والكبير. ولعل السبب الأساسي الذي فرض عليها هذا الوضع تلك الظاهرة التي كثيرا ما ناقشها المثقفون والمفكرون، وهي ظاهرة "هيمنة السياسي" على مختلف مجالات الحياة الأخرى. وهكذا أصبح السياسي مهيمنا على الثقافي والصحفي وهلم جرا... ولعل هيمنة السياسي هذه كان من نتائجها تراجع المشروع إلى الخلف، في الوقت الذي تقدمت فيه اتحادات أخرى (الاتحاد الأوروبي مثلا ) أشواطا كبيرة.
أ- هيمنة السياسي على الصحفي:
والواقع أن هيمنة السياسي على الصحفي -أي طغيان السياسي على غير السياسي - ليس وضعا خاصا بالمجتمع المغربي ، لكنه يأخذ حجما أكبر عندما يتعلق الأمر بهذا المجتمع وبالمجتمعات المغاربية بشكل أوسع، كما أنه وضع يهيمن على معظم مجالات الحياة ، حيث تتعاظم الفاعلية السياسية وتتراجع كل الفاعليات الأخرى. ومن الطبيعي في مجتمعات تغيب فيها الثقافة الديمقراطية أن تتولد وضعيات كهذه. غير أنه من اللازم الإشارة إلى أن مثل هذا الوضع نكاد نجد مثيله حتى في المجتمعات المتطورة، ذلك أن حساسية الدور الذي تلعبه الصحافة يجعلها دائما في قفص الاتهام. فهي تمثل ذلك الكائن المنبوذ من قبل السياسيين وأصحاب القرار. إضافة إلى ذلك فهي تعيش على ما يتسرب إليها من أخبار من هنا وهناك، بل وتتعرض للمضايقات والمراقبة والحجز، ويتعرض ممارسوها إلى جميع أشكال المضايقة التي لا يمكن تصورها.
ومع تجاوزنا لكل هذه الجوانب التي تقلص من قوة الصحافة والصحافيين، وتجعلهم بمثابة المناضلين الذين يقدمون تضحيات أكثر من غيرهم (يعتقلون ويجاكمون ويفقدون لقمة عيشهم....) والتي نشأت في المقام الأول عن هيمنة السياسي ، فلا بد من تسجيل جوانب القصور التي تعتور العمل الصحفي ، وهي عوامل يرتبط بعضها بقبول الصحفي بالأمر الواقع والرضوخ له صاغرا، ويتعلق بعضه بغياب الهم المغاربي الموحد ، ويربتط البعض الآخر بغياب الاستراتيجية الإعلامية التي تأخذ بعين الاعتبار الأساسيات والأولويات ، ويرتبط البعض الآخر بغياب الاجتهاد على الصعيد الصحفي وغياب المبادرات الشخصية الفاعلة .
ب- غياب فكرة "الواقع المغاربي" عن الصحافة:
عندما نشأت فكرة المغرب العربي كانت تمثل ضرورة حتمية وتاريخية، فهي أولا فكرة ذات جذور تاريخية، بحيث إن فكرة وحدة المغرب العربي كانت قد تحققت في فترات من تاريخ المغرب ، وهي فكرة كانت ضمن برنامج الحركة الوطنية ،ودافعت عنها هذه الحركة الوطنية بكل قوة إبان فترة الاستعمار. ومعنى ذلك أن استعادة هذه الفكرة لم تأت من فراغ، وأن تحقيقها ليس بالأمر المستحيل. وإنما يتطلب مجهودا في هذا الاتجاه.
ومع ذلك فالملاحظ أن فكرة المغرب العربي كما تم تصورها في الثمانينات كان من العسير تحقيقها، ليس لكونها مستحيلة التحقق، وليس لصعوبة تحقيقها، ولكن لغياب الفكرة من الأساس في الوقت الراهن. إن غياب الفكرة يعني أن الفكر المهيمن في هذه الفترة التاريخية، وهو الفكر الذي يؤطر التوجهات الكبرى للدول وللمجموعات البشرية، كان مشغولا بأفكار أخرى، وأن الواقع الراهن لم يكن يسمح بوجود فكرة المغرب العربي ولو أنها فكرة ممكنة التحقق وأمر مرغوب فيه. وكان على هذه الفكرة أن تتراجع لتسكن الوعي العميق ليس للسياسيين فحسب، بل وللمثقفين والصحافيين الذي هم جزء منهم.
ومن الأسباب التي فرضت هذا الوضع، انشغال الدول والمجتمعات المغاربية بحل مشكلاتها البنيوية والعميقة والمعقدة (الإيديولوجية والنظامية والحدودية ...)، في مرحلة أولى(خاصة في الستينات) ، ثم انشغال هذه المجتمعات أيضا بالبحث عن الحلول الكفيلة بإخراجها من أزمات انغلاق الأفق السياسي التي عصفت بها (خاصة في السبعينات)، ثم انشغالها من جديد في البحث عن الديمقراطية (في التسعينات) .
ومعنى ذلك أن العجز عن تحقيق فكرة المغرب العربي ليس سببه دائما غياب المشروع، أو انعدام وجود الإرادة السياسية، وهما عنصران أساسيان ، وإنما مرده إلى وجود برنامج سياسي آخر، لايمكن تأجيله .
هكذا إذن كان على النخب والمجتمع أن تنتظر انتهاء حلقة مشروع البناء الديمقراطي، لكي تعاود التفكير في حلقة مشروع البناء المغاربي، ولا نعتقد أن تحقيق هذا المشروع الأخير ، مشروع البناء المغاربي ، في المرحلة التي نعيش فيها ممكن التحق للتفاوت الكبير الذي نلحظه على مجموعة الأقطار المغاربية في ميدان تحقق الديمقراطية ولغياب شروط تحقيق مثل هذا الحلم الذي بدأ يتراجع بسبب تكريس خطاب اللاتفاهم والعدوانية والتضحية بالحلم في سبيل إلهاء الشعوب .
ومع ذلك فليس من النزاهة بمكان أن نبرىء ساحة الصحافة التي اختارت الطريق السهل، ولم تتحمل مسؤوليتها التاريخية في التعاطي مع ملف المغرب العربي، ولو في إطار التهييء النفسي للشعوب المغاربية التي ظلت منذ فترة الاستعمار تطمح إلى توحيد الأقطار المغاربية . وهو الأمر الذي يشترك فيه كل صحفيو المغرب العربي سواء أولائك الذين اختاروا طريق التظليل وقرع طبول اللاتفاهم والحرب، أو أولائك الذي رضخوا للأمر الواقع وابتعدوا عن طرح الإشكالات. وسوف نحاول أن نعود إلى هذه النقطة في تصورنا للحلول.
ج- غياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية:
المشكلة الثانية التي لا بد من التوقف عندها ونحن نتأمل المشهد الصحافي في تعامله مع فكرة المغرب العربي هي ما نسميه بغياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية، وهو غياب لا يسجل على الصحافة والصحفيين فحسب، بل ويتجاوزهم إلى المؤسسات الإعلامية المغاربية (وزارات الإعلام والخارجية والتعاون) التي يفترض أنها تتحمل مسؤولية توجيه إعلامها ليشمل كل المناطق التي تتحق فيها مصالحها.
وينبغي أن نسجل في هذا الصدد أن المؤسسات الإعلامية المغاربية تبدو عاجزة اليوم عن وضع استراتيجية علمية في هذا الباب. والأمر هنا لا يتعلق بالمغرب العربي ، بل يتجاوزه ليصبح مشكلة عامة تشمل كل المناطق التي توجد فيها المصلحة العامة للبلاد. ففي فرنسا التي تعتبر منطقة حيوية بالنسبة للمغرب حيث توجد فيها أكبر جالية مغربية، لا يتواجد فيها الإعلام المغربي، وإن تواجد فتواجده هامشي ونضالي.والأمر نفسه ينطبق على مجمل المناطق العربية أو الأوروبية أو الآسيوية أو الأمريكية. وكان من المفروض أن توجه الجهود لملء هذا الفراغ سواء في العالم العربي حيث توجد مصالح المغرب الحيوية الاقتصادية والثقافية والسياسية، أو في مناطق العالم المتقدم (أوروبا وأمريكا). وباختصار فلحد الآن لم تتعامل المؤسسات الإعلامية مع فكرة إسماع صوت المغرب تعاملا ينبني على تحقيق مصالح العليا، أما على مستوى التعامل مع فكرة المغرب العربي تعاملا جادا يجعلنا نقتنع بأن هناك اسراتيجية إعلامية مغاربية مثلما أن هناك استراتيجية تنموية فتلك ما هو مفقتد الآن.
أما على صعيد ما تنشره الصحافة المغربية من خلال أهم صحفها على الأقل، فلا بد من تسجيل غياب الاستراتيجية الإعلامية الحقة سواء لدى الجهات التي تصدر هذه الصحافة أو لدى الصحفيين أنفسهم، إلى درجة أصبح الخبر الإعلامي المغاربي فيها نادر الوجود، وإذا ما وجد هذا الخبر (السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي) فلا يمكن أن يوجد بهدف بناء المغرب العربي بل بهدف تقويضه وهدمه وبث الشكوك والفرقة فيه.
والاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به هو أن الصحافة المغاربية يطبعها غياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية ، كما طبعها غياب فكرة المغرب العربي من قبل. وغياب هذه الاستراتيجية سببه الأول والأخير غياب الإرادة السياسية أولا لأنها هي الإرادة التي تعيق كل مبادرة أو اجتهاد.
د- غياب الاجتهاد والمبادرة الصحفية:
المشكلة الثالثة التي تطبع الصحافة هي أنها صحافة تركن إلى الشائع، وتبتعد عن كل ما يشكل اجتهادا أو مبادرة شخصية. ولقد عودتنا الصحافة على اجترار المكرور، بحيث تتسابق الصحف على الشائع من الأبواب، ولا تتقبل الاجتهاد الذي يخرج عن المألوف. وكان بإمكان بعض الصحفيين أن يتخصصوا في موضوع ما، مثل موضوع المغرب العربي. وفي هذا الصدد لا بد من تذكر المشروع الكبير الذي كان يقوم بإنجازه المرحوم باهي محمد والذي كان مشروعا رائدا، خاصة في موضوع المغرب العربي.
ولا شك أن غياب الاجتهاد الشخصي والمبادرة الفردية له أسباب كثيرة تبرره، ومن أهم هذه الأسباب هيمنة السياسي على ما عداه، ثم الخوف من الوقوع في المطبات التي قد تكلف الصحفي قوت يومه. وهي أسباب كان بالإمكان أن تكون متجاوزة لو تحققت للصحفيين الحقوق المفروض تحققها لهم مثل الحرية التي هي إكسير حياتهم.
تلكم إذن بعض الأسباب التي ساهمت في ضعف تعامل الصحافة مع موضوع المغرب العربي والتي فضلنا التوقف عندها بكثير من الاختصار. وفي النقطة التالية سنقدم بعض الاقتراحات الكفيلة بتجاوز حالة التقوقع والجمود التي تشهدها الصحافة في تعاملها مع موضوع حيوي وراهن مثل موضوع تحقق المغرب العربي.
II -نحو تجاوز الوضعية الهشة للصحافة:
لنحاول أن نبحث الآن في آليات تجاوز هذا الوضع الهش للصحافة، واقراح بعض الحلول، بعد أن وقفنا عند مواضع الخلل التي تحفل بها الصحافة. ولنؤكد أولا أن هذه الآليات لايمكن أن تشتغل إلا إذا تم توفير الجو الملائم لها. والجو الملائم الذي نعنيه هو توفر الإرادة السياسية عند كافة الأطراف المغاربية، ونحن لا نعتقد بسهولة توفر هذه الإرادة في الوقت الراهن، لانشغالات دول المغرب العربي بأمور داخلية، ثم تحقيق الحرية الكاملة والرعاية (المادية والمعنوية) التي يفترض أن توجه للصحفيين باعتبارهم يساهمون مساهمة فعالة في خلق جو الاستقرار والتنمية.
1- إن أول ما ينبغي أن يتحقق هو توفير الجو السياسي الملائم لانبثاق فكرة المغرب العربي من جديد، وهذه المرة على أسس صحيحة. ومعنى ذلك أن فكرة المغرب العربي لا ينبغي أن تكون مرتبطة أو مشروطة أو رهينة لقضية من القضايا المعلقة، بل ينبغي أن تكون فكرة استراتيجية لا تتأثر بالمشاكل التي تكون (أو يمكن أن تكون) قائمة بين بلدان دول المغرب العربي.
2- لا بد أن يواكب هذا الجو السياسي مشروع طويل الأمد يتعلق بتجذير فكرة المغرب العربي لدى الأجيال المغاربية الجديدة التي لم تنشأ أو ترتبط بفكرة المغرب العربي، وهي الجزء الأكبر من ساكنة المغرب العربي. ولا يتم تجذير هذه الفكرة إلا على المدى الطويل، وبواسطة البرامج التعليمية التي يمكن أن تحقق هذا الهدف.
3- لا بد من إعطاء فرصة للصحافيين المغاربيين لإبراز كفاءاتهم ومقدراتهم في تعاملهم مع فكرة المغرب العربي، دون فرض أية وصاية عليهم أو دون ضغوط. ولا بد أن تتم حمايتهم من كل شطط قد يصيبهم.
د.عبدا لرحمن بوعلي
مدخل:
لا أحد يشك اليوم في أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام بصفة عامة والصحافة المكتوبة بصفة خاصة في التعريف بالقضايا الكبرى في عالمنا المعاصر، فالدور الذي يقوم به الإعلام دور كبير جدا، وتأثيراته على تطور الأفكار وإشاعتها لا يمكن تجاهلها. وفي هذا الإطار ، ساهمت الصحافة ،كما حدث في العقود الأخيرة وفي مرات عديدة ، في الترويج لإيديولوجيات ورفعها إلى درجة ومقام اليقينيات، كما ساهمت أيضا في هدم إيديولوجيات أخرى وجعلها تختفي من الساحة تماما. ومن ثمة تأخذ الصحافة كل قوتها، وتصبح سلطة مؤثرة بشكل كبير في الأحداث الكبرى، وفي توجيه مسار التاريخ.
ويجدر بنا ونحن نؤكد هذه الحقيقة، أن نتساءل عن الصحافة المكتوبة وعن دورها في قضية كبرى مثل مشروع تحقيق "المغرب العربي" الذي ظل إلى حد الآن مجرد فكرة لم يتحقق لها النجاح.وإذا كان واقع هذه الصحافة، بالارتباط مع تحقيق هذا المشروع الكبير، وبالارتباط مع قضايا أخرى أيضا، لم يحقق النجاح المطلوب، فإن ذلك يرجع إلى واقع الصحافة الذي يتأثر بمجموعة من الأسباب ويرجع إلى الظروف التي تعيشها الصحافة والصحفيون بالدرجة الأولى.
وفي هذا المقال سنتناول الواقع الصحفي الهش كما يراه المثقف المغربي، والأسباب التي كانت وراء غياب التعامل الفاعل مع فكرة "المغرب العربي الموحد" وتجسيدها، وسنحاول طرح بعض الآليات والتوصيات التي يمكنها أن تطور تعامل الصحافة مع موضوع"بناء المغرب العربي".
I - المشهد الصحفي: الواقع والإكراهات:
لنبدأ أولا برسم المشهد الذي تحفل به الصحافة، هذا المشهد الذي يبدو هشا، فهو الكفيل بجعلنا نتأكد من حقيقة أولية وواضحة تتخلص في أن الصحافة، بالرغم من أنها تشكل سلطة مستقلة ،لم تستطع أن تتجاوز الأعطاب السياسية ، فظلت تعيش على هامش الأحداث. وبتعبير آخر فقد ظل الخطاب السياسي مهيمنا وطاغيا إلى الحد الذي جعل الصحافة تتراجع إلى الوراء. وصار بالإمكان جدا أن يتحدث الصحفيون والصحافة عن كل شيء إلا عن المغرب العربي. ولعل محاولة استرجاع ما تكتبه الصحافة يبين بالملموس الهامش البسيط الذي يخصص لأخبار المغرب العربي. بل إن هذه الأخبار لا تتعلق في الحقيقة بالمغرب العربي، بقدر ما تتعلق بأقطار المغرب العرب العربي. ولعل الفرق واضح بين الحديث عن المغرب العربي والحديث عن دوله. وهو الأمر الذي يجعلنا نستخلص أن الفكرة العامة للمغرب العربي ووحدته (لا نقول السياسية، فذلك أمر بعيد التحقق) لم تنضج بعد، ولم تجد صياغتها اللازمة، وذلك على الأقل ما يعكسه الواقع من جهة وما تعكسه تعكسه الصحافة الوطنية باختلاف مشاربها وتوجهاتها من جهة أخرى.
ولعل ما يهمنا من هذه الخلاصة، أن الوضع الصحافي في المغرب في تعامله مع فكرة المغرب العربي (خاصة من خلال صحفه الأساسية) هو وضع غير سليم، بحيث يمكن تسجيل حقيقة أولية وهي أن الصحافة لم تستطع أن تكون مؤثرة بالشكل الصحيح والمطلوب، ولم تستطع أن تتفاعل مع أهمية المشروع المغاربي الطموح والكبير. ولعل السبب الأساسي الذي فرض عليها هذا الوضع تلك الظاهرة التي كثيرا ما ناقشها المثقفون والمفكرون، وهي ظاهرة "هيمنة السياسي" على مختلف مجالات الحياة الأخرى. وهكذا أصبح السياسي مهيمنا على الثقافي والصحفي وهلم جرا... ولعل هيمنة السياسي هذه كان من نتائجها تراجع المشروع إلى الخلف، في الوقت الذي تقدمت فيه اتحادات أخرى (الاتحاد الأوروبي مثلا ) أشواطا كبيرة.
أ- هيمنة السياسي على الصحفي:
والواقع أن هيمنة السياسي على الصحفي -أي طغيان السياسي على غير السياسي - ليس وضعا خاصا بالمجتمع المغربي ، لكنه يأخذ حجما أكبر عندما يتعلق الأمر بهذا المجتمع وبالمجتمعات المغاربية بشكل أوسع، كما أنه وضع يهيمن على معظم مجالات الحياة ، حيث تتعاظم الفاعلية السياسية وتتراجع كل الفاعليات الأخرى. ومن الطبيعي في مجتمعات تغيب فيها الثقافة الديمقراطية أن تتولد وضعيات كهذه. غير أنه من اللازم الإشارة إلى أن مثل هذا الوضع نكاد نجد مثيله حتى في المجتمعات المتطورة، ذلك أن حساسية الدور الذي تلعبه الصحافة يجعلها دائما في قفص الاتهام. فهي تمثل ذلك الكائن المنبوذ من قبل السياسيين وأصحاب القرار. إضافة إلى ذلك فهي تعيش على ما يتسرب إليها من أخبار من هنا وهناك، بل وتتعرض للمضايقات والمراقبة والحجز، ويتعرض ممارسوها إلى جميع أشكال المضايقة التي لا يمكن تصورها.
ومع تجاوزنا لكل هذه الجوانب التي تقلص من قوة الصحافة والصحافيين، وتجعلهم بمثابة المناضلين الذين يقدمون تضحيات أكثر من غيرهم (يعتقلون ويجاكمون ويفقدون لقمة عيشهم....) والتي نشأت في المقام الأول عن هيمنة السياسي ، فلا بد من تسجيل جوانب القصور التي تعتور العمل الصحفي ، وهي عوامل يرتبط بعضها بقبول الصحفي بالأمر الواقع والرضوخ له صاغرا، ويتعلق بعضه بغياب الهم المغاربي الموحد ، ويربتط البعض الآخر بغياب الاستراتيجية الإعلامية التي تأخذ بعين الاعتبار الأساسيات والأولويات ، ويرتبط البعض الآخر بغياب الاجتهاد على الصعيد الصحفي وغياب المبادرات الشخصية الفاعلة .
ب- غياب فكرة "الواقع المغاربي" عن الصحافة:
عندما نشأت فكرة المغرب العربي كانت تمثل ضرورة حتمية وتاريخية، فهي أولا فكرة ذات جذور تاريخية، بحيث إن فكرة وحدة المغرب العربي كانت قد تحققت في فترات من تاريخ المغرب ، وهي فكرة كانت ضمن برنامج الحركة الوطنية ،ودافعت عنها هذه الحركة الوطنية بكل قوة إبان فترة الاستعمار. ومعنى ذلك أن استعادة هذه الفكرة لم تأت من فراغ، وأن تحقيقها ليس بالأمر المستحيل. وإنما يتطلب مجهودا في هذا الاتجاه.
ومع ذلك فالملاحظ أن فكرة المغرب العربي كما تم تصورها في الثمانينات كان من العسير تحقيقها، ليس لكونها مستحيلة التحقق، وليس لصعوبة تحقيقها، ولكن لغياب الفكرة من الأساس في الوقت الراهن. إن غياب الفكرة يعني أن الفكر المهيمن في هذه الفترة التاريخية، وهو الفكر الذي يؤطر التوجهات الكبرى للدول وللمجموعات البشرية، كان مشغولا بأفكار أخرى، وأن الواقع الراهن لم يكن يسمح بوجود فكرة المغرب العربي ولو أنها فكرة ممكنة التحقق وأمر مرغوب فيه. وكان على هذه الفكرة أن تتراجع لتسكن الوعي العميق ليس للسياسيين فحسب، بل وللمثقفين والصحافيين الذي هم جزء منهم.
ومن الأسباب التي فرضت هذا الوضع، انشغال الدول والمجتمعات المغاربية بحل مشكلاتها البنيوية والعميقة والمعقدة (الإيديولوجية والنظامية والحدودية ...)، في مرحلة أولى(خاصة في الستينات) ، ثم انشغال هذه المجتمعات أيضا بالبحث عن الحلول الكفيلة بإخراجها من أزمات انغلاق الأفق السياسي التي عصفت بها (خاصة في السبعينات)، ثم انشغالها من جديد في البحث عن الديمقراطية (في التسعينات) .
ومعنى ذلك أن العجز عن تحقيق فكرة المغرب العربي ليس سببه دائما غياب المشروع، أو انعدام وجود الإرادة السياسية، وهما عنصران أساسيان ، وإنما مرده إلى وجود برنامج سياسي آخر، لايمكن تأجيله .
هكذا إذن كان على النخب والمجتمع أن تنتظر انتهاء حلقة مشروع البناء الديمقراطي، لكي تعاود التفكير في حلقة مشروع البناء المغاربي، ولا نعتقد أن تحقيق هذا المشروع الأخير ، مشروع البناء المغاربي ، في المرحلة التي نعيش فيها ممكن التحق للتفاوت الكبير الذي نلحظه على مجموعة الأقطار المغاربية في ميدان تحقق الديمقراطية ولغياب شروط تحقيق مثل هذا الحلم الذي بدأ يتراجع بسبب تكريس خطاب اللاتفاهم والعدوانية والتضحية بالحلم في سبيل إلهاء الشعوب .
ومع ذلك فليس من النزاهة بمكان أن نبرىء ساحة الصحافة التي اختارت الطريق السهل، ولم تتحمل مسؤوليتها التاريخية في التعاطي مع ملف المغرب العربي، ولو في إطار التهييء النفسي للشعوب المغاربية التي ظلت منذ فترة الاستعمار تطمح إلى توحيد الأقطار المغاربية . وهو الأمر الذي يشترك فيه كل صحفيو المغرب العربي سواء أولائك الذين اختاروا طريق التظليل وقرع طبول اللاتفاهم والحرب، أو أولائك الذي رضخوا للأمر الواقع وابتعدوا عن طرح الإشكالات. وسوف نحاول أن نعود إلى هذه النقطة في تصورنا للحلول.
ج- غياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية:
المشكلة الثانية التي لا بد من التوقف عندها ونحن نتأمل المشهد الصحافي في تعامله مع فكرة المغرب العربي هي ما نسميه بغياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية، وهو غياب لا يسجل على الصحافة والصحفيين فحسب، بل ويتجاوزهم إلى المؤسسات الإعلامية المغاربية (وزارات الإعلام والخارجية والتعاون) التي يفترض أنها تتحمل مسؤولية توجيه إعلامها ليشمل كل المناطق التي تتحق فيها مصالحها.
وينبغي أن نسجل في هذا الصدد أن المؤسسات الإعلامية المغاربية تبدو عاجزة اليوم عن وضع استراتيجية علمية في هذا الباب. والأمر هنا لا يتعلق بالمغرب العربي ، بل يتجاوزه ليصبح مشكلة عامة تشمل كل المناطق التي توجد فيها المصلحة العامة للبلاد. ففي فرنسا التي تعتبر منطقة حيوية بالنسبة للمغرب حيث توجد فيها أكبر جالية مغربية، لا يتواجد فيها الإعلام المغربي، وإن تواجد فتواجده هامشي ونضالي.والأمر نفسه ينطبق على مجمل المناطق العربية أو الأوروبية أو الآسيوية أو الأمريكية. وكان من المفروض أن توجه الجهود لملء هذا الفراغ سواء في العالم العربي حيث توجد مصالح المغرب الحيوية الاقتصادية والثقافية والسياسية، أو في مناطق العالم المتقدم (أوروبا وأمريكا). وباختصار فلحد الآن لم تتعامل المؤسسات الإعلامية مع فكرة إسماع صوت المغرب تعاملا ينبني على تحقيق مصالح العليا، أما على مستوى التعامل مع فكرة المغرب العربي تعاملا جادا يجعلنا نقتنع بأن هناك اسراتيجية إعلامية مغاربية مثلما أن هناك استراتيجية تنموية فتلك ما هو مفقتد الآن.
أما على صعيد ما تنشره الصحافة المغربية من خلال أهم صحفها على الأقل، فلا بد من تسجيل غياب الاستراتيجية الإعلامية الحقة سواء لدى الجهات التي تصدر هذه الصحافة أو لدى الصحفيين أنفسهم، إلى درجة أصبح الخبر الإعلامي المغاربي فيها نادر الوجود، وإذا ما وجد هذا الخبر (السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي) فلا يمكن أن يوجد بهدف بناء المغرب العربي بل بهدف تقويضه وهدمه وبث الشكوك والفرقة فيه.
والاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به هو أن الصحافة المغاربية يطبعها غياب الاستراتيجية الإعلامية المغاربية ، كما طبعها غياب فكرة المغرب العربي من قبل. وغياب هذه الاستراتيجية سببه الأول والأخير غياب الإرادة السياسية أولا لأنها هي الإرادة التي تعيق كل مبادرة أو اجتهاد.
د- غياب الاجتهاد والمبادرة الصحفية:
المشكلة الثالثة التي تطبع الصحافة هي أنها صحافة تركن إلى الشائع، وتبتعد عن كل ما يشكل اجتهادا أو مبادرة شخصية. ولقد عودتنا الصحافة على اجترار المكرور، بحيث تتسابق الصحف على الشائع من الأبواب، ولا تتقبل الاجتهاد الذي يخرج عن المألوف. وكان بإمكان بعض الصحفيين أن يتخصصوا في موضوع ما، مثل موضوع المغرب العربي. وفي هذا الصدد لا بد من تذكر المشروع الكبير الذي كان يقوم بإنجازه المرحوم باهي محمد والذي كان مشروعا رائدا، خاصة في موضوع المغرب العربي.
ولا شك أن غياب الاجتهاد الشخصي والمبادرة الفردية له أسباب كثيرة تبرره، ومن أهم هذه الأسباب هيمنة السياسي على ما عداه، ثم الخوف من الوقوع في المطبات التي قد تكلف الصحفي قوت يومه. وهي أسباب كان بالإمكان أن تكون متجاوزة لو تحققت للصحفيين الحقوق المفروض تحققها لهم مثل الحرية التي هي إكسير حياتهم.
تلكم إذن بعض الأسباب التي ساهمت في ضعف تعامل الصحافة مع موضوع المغرب العربي والتي فضلنا التوقف عندها بكثير من الاختصار. وفي النقطة التالية سنقدم بعض الاقتراحات الكفيلة بتجاوز حالة التقوقع والجمود التي تشهدها الصحافة في تعاملها مع موضوع حيوي وراهن مثل موضوع تحقق المغرب العربي.
II -نحو تجاوز الوضعية الهشة للصحافة:
لنحاول أن نبحث الآن في آليات تجاوز هذا الوضع الهش للصحافة، واقراح بعض الحلول، بعد أن وقفنا عند مواضع الخلل التي تحفل بها الصحافة. ولنؤكد أولا أن هذه الآليات لايمكن أن تشتغل إلا إذا تم توفير الجو الملائم لها. والجو الملائم الذي نعنيه هو توفر الإرادة السياسية عند كافة الأطراف المغاربية، ونحن لا نعتقد بسهولة توفر هذه الإرادة في الوقت الراهن، لانشغالات دول المغرب العربي بأمور داخلية، ثم تحقيق الحرية الكاملة والرعاية (المادية والمعنوية) التي يفترض أن توجه للصحفيين باعتبارهم يساهمون مساهمة فعالة في خلق جو الاستقرار والتنمية.
1- إن أول ما ينبغي أن يتحقق هو توفير الجو السياسي الملائم لانبثاق فكرة المغرب العربي من جديد، وهذه المرة على أسس صحيحة. ومعنى ذلك أن فكرة المغرب العربي لا ينبغي أن تكون مرتبطة أو مشروطة أو رهينة لقضية من القضايا المعلقة، بل ينبغي أن تكون فكرة استراتيجية لا تتأثر بالمشاكل التي تكون (أو يمكن أن تكون) قائمة بين بلدان دول المغرب العربي.
2- لا بد أن يواكب هذا الجو السياسي مشروع طويل الأمد يتعلق بتجذير فكرة المغرب العربي لدى الأجيال المغاربية الجديدة التي لم تنشأ أو ترتبط بفكرة المغرب العربي، وهي الجزء الأكبر من ساكنة المغرب العربي. ولا يتم تجذير هذه الفكرة إلا على المدى الطويل، وبواسطة البرامج التعليمية التي يمكن أن تحقق هذا الهدف.
3- لا بد من إعطاء فرصة للصحافيين المغاربيين لإبراز كفاءاتهم ومقدراتهم في تعاملهم مع فكرة المغرب العربي، دون فرض أية وصاية عليهم أو دون ضغوط. ولا بد أن تتم حمايتهم من كل شطط قد يصيبهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق