إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 23 مارس 2008

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل 3

المشهد الشعري في المغرب: من التأسيس إلى التساؤل
الحلقة الثالثة
بقلم: د.عبد الرحمن بوعلي

"عندما نكتب نضع البذور،نحن نفترض أننا نضع نوعا من البذور، ونفترض أننا بالتالي نضع أنفسنا من جديد ضمن التواصل العام للبذور..."
رولان بارط

لم تكتمل دائرة المشهد الشعري في المغرب بجيل السبعينات الذي أطلق عليه المرحوم عبد الله راجع في أطروحته المميزة اسم جيل "الشهادة والاستشهاد"[1]، بل ولم تكتمل حتى نصف الدائرة، ذلك أن الذين كتبوا الشعر المغربي- أو جزءا منه- لحد نهاية السبعينات، لم يكونوا إلا كوكبة الطليعة أو رأس الرمح، وكان لا بد أن تنضاف إليهم كوكبة أو كوكبات أخرى هي ما اصطلح عليه بجيل الثمانينات والتسعينات، وهو جيل شكلته أسماء شابة جاءت إلى ساحة الإبداع بعد أن حققت رصيدا من التذوق الفني والجمالي-الشعري بالدرجة الأولى- وبعد أن فتنت بالحركات التجديدية في الشعر العربي والعالمي.
والحق أن هذه الأسماء الشابة لم تعرف الجيل الستيني على الإطلاق، ولم تكن معرفتها بجيل السبعينات بالمعرفة الكاملة، رغم أن معظمها تخرج على أيدي شعراء السبعينات، وتشرب هموم وطموحات وآمال الواقع المغربي والعربي، وانبهر -في أغلبه- بنماذج شعرية عربية وعالمية كانت تراهن كلها على حداثة مفرطة في الشكلية.
الصفة الثانية في هذا الجيل - ونعتقد أنها صفة أساسية وجوهرية- هي أنه جيل مشاكس، لم يذعن للسابقين عليه، رغم أنه تتلمذ عليهم، وكأن أصحابه أخذوا بذلك الشعار الذي رفعه بعض الروائيين الإنجليز والمتلخص في تلك العبارة القوية والرنانة: "انظر وراءك في غضب". والحق أن نظرتم الغاضبة هاته، وأن رؤيتهم الشعرية التي عبروا عنها، وأن خطاباتهم الشعرية التي خلفوها، إن هي إلا نتاج لوضعية سوسيو-ثقافية وفكرية متأزمة.
وليس مهما أن نتناول هذه الوضعية بتفصيل، ولكن حسبنا أن نشير إلى بعض ملامحها الأساسية.
فأولا: هذا الجيل الجديد، وإن وجد له أسلافا، لم يجد فيهم من يدعم خطواتهم، ويؤثث مخيلتهم، وينتقد توجهاتهم، ويساهم معهم في توصيل أصواتهم، وفي الدفاع عنهم، وإنما وجد جيلا يدعي الريادة وينسبها إلى نفسه دون حجج مقنعة، بل ويحاول أن يرسم صورة مشرقة له حتى يكتسب الشرعية. وهو حتى في انفتاحه على هذا الجيل الجديد إنما يقترح عليه حلولا لا علاقة لها بأي سلوك إبداعي لما في هذه الحلول من طعم أستاذية فجة.
وثانيا: لأن هذا الجيل الجديد وجد أمامه واقعا آخر، ليس هو الواقع الذي عاش فيه السابقون عليه، أي ذلك الواقع الذي كان يترك هامشا للمغايرة والتفرد، بل وجد واقعا اكتملت دائرة الانهزام والمأساوية فيه، وتفتتت أفكاره ورؤاه وتكتلاته، وتحللت مشاريعه الوطنية والقومية، وحتى تلك التطلعات والطموحات الشخصية المسكونة بلذة الفعل والاكتشاف لم تعد قائمة. ولعله كان حريا بهذا الجيل إذن أن يخرج عن القاعدة، وأن يبحث له عن هامش غير موجود يصنعه بالكلمات والأفكار والأشكال دون رضوخ لنموذج مسبق، ودون وصاية من أي أحد.
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم تلك الصرخة المدوية التي عبر عنها الشعراء الشباب-أي التسعينيون- حين تناوشتهم سيوف النقاد والشعراء السابقين، وحين اتهم شعرهم بالسقوط والرداءة والإسفاف[2]. ويمكن أن نفهم تلك الثورة التي قامت، وذلك النقاش الذي كان سببه رأي عبر عنه شاعر سبعيني[3]، بل ويمكن أن نفهم أيضا ذلك الاحتجاج الذي عبر عنه باحث شاب-هو المرحوم محمد الماجري- في رده على رأي مناوش لشاعر سبعيني هو محمد بنيس تناول فيه كتابه "الشكل والخطاب"[4].
وعلى العموم، وبدون تفصيل أكثر، فجيل الثمانينات والتسعينات، وإن كان قد خرج -رسميا وتاريخيا- من المعطف الشعري لسابقيه، فقد خرج عن طاعتهم، وغايرهم فيما يتعلق بالأمور التي لها علاقة بالشعر، مثل مفهوم الحداثة، وعلاقة الشعر بالواقع، وباللغة، وبالتراث، وبالإيديولوجيا.. بل وخرج عن التقليد القديم الذي ربط الشعر بالالتزام والذي درج عليه شعراء الستينات والسبعينات استجابة لنزعات قومية وتحررية. وفي هذا الصدد يمكن القول إن الكثير من القيم الشعرية الفلسفية والأخلاقية والإيديولوجية التي لها علاقة بالإنسان مفهوما وواقعا، والتي دأبت الأصوات الشعرية السابقة على تأسيسها وتجذيرها وحمايتها، لم يعد لها مكان في هذه التجربة الجديدة. فلم يعد يهم إذن في هذه التجربة إلا ما له علاقة بطرق التعبير أو هذا ما يظهر للوهلة الأولى على الأقل، ولذلك فقد أثيرت من جديد مسألة الشعر الموزون والشعر المنثور، وأثيرت قضايا أخرى كان الناقد يظن أنه قد حسم فيها. بعبارة أخرى يمكن القول إن ما أصبح يهم ليس هو ما يقال بل كيف يقال، وهو سؤال كان الجيل السابق-جيل السبعينات- قد طرحه من قبل وأجاب عنه، وقتله بحثا.
إنها مرحلة أخرى، بل إنها عمر آخر سيدخله المشهد الشعري، وكأن القصيدة المغربية دخلت منطقة درجة "الصفر" ، وهي مرحلة أخرى من مراحل الكتابة، وكأن الشاعر قد خرج من همومه الوطنية والقومية ليلج عالما آخر لا خير فيه ولا شر، لا قبح فيه ولا جمال، لا مسؤولية فيه ولا تيه. لكأن الشعر قد تم اختزاله إلى لغة فقط.
وليس هذا فحسب، بل وقد نشعر أن ما أسس فرادة تجربة هذا الجيل الجديد، هو ربط ممارسيه-باختزال شديد- بين الفاعلية الشعرية والفاعلية النظرية، حيث انصهرت جميع التصورات والتهيئات المعاصرة حول مفهوم الشعر ونظريته، فأصبح الشعر "فاعلية كلغة" و"اشتغالا بها" كما يقول هنري ميشونيك[5]، وطرحت مسألة ترسيخ تقليد الحوار وفتح المجال لإعادة النظر في كل ما هو بدهي ومكبوت ومهمش ولا مفكر فيه، أي ما له علاقة "بعصر الأسئلة" حسب التعبير المألوف لأدونيس[6].
ثمة إذن ارتجاج كبير سيشهده المشهد الشعري في نهاية الثمانينات ومع بداية التسعينات، وهو ارتجاج مس الوعي النظري الشعري، وانعكست مظاهره على البناء الشعري في تجربة هؤلاء القادمين إلى الشعر، ليس انطلاقا من النماذج المؤسسة قبلا-عند السياب والملائكة والحيدري والبياتي.. أو عند شعراء الستينات والسبعينات في المغرب: المجاطي والسرغيني والكنوني..- بل انطلاقا من نماذج مترجمة، أغلبها يخلو من الحرارة الشعرية التي توفرها "الأصالة" العربية على مستوى القول الشعري.
لكن ما الذي يعنيه هذا الأسلوب الجديد في الكتابة والنقد والمواجهة؟ هذا الأسلوب الذي لم يفهم على حقيقته والذي لا زال يحير النقاد ويجعلهم يتصرفون وكأنهم لا علاقة لهم بهذا الشعر؟ هل يعني أن هذا الجيل الجديد لم تعد ترضيه النماذج المقولبة السابقة؟ وهل يعني أنه ارتضى القطيعة بدل التواصل؟ وهل تمثل الحداثة بالنسبة إليه مجرد مشروع لا زال لم يتحقق؟... أو لم يقل أدونيس إن " الإبداع يفترض الجديد" و‘أنه "اعتراف بأن الماضي ليس كاملا" [7]؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عبد الله راجع- الشهادة والاستشهاد- دار عيون المقالات، 1986
[2] انظر الملاحق الثقافية للجرائد المغربية: العلم - الاتحاد الاشتراكي- بيان اليوم- أنوال.
[3] جريدة الشرق- مارس 1994.
[4] محمد الماجري- الشكل والخطاب- المركز الثقافي العربي 1992.
[5] هنري ميشونيك- نقد الإيقاع (بالفرنسية) ص63.
[6] أدونيس - النظام والكلام، ص20.
[7] نفسه، ص 26.

ليست هناك تعليقات: