إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 2 مارس 2008

جميل داري: "وردة الزمن المستحيل للشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي"

ماذا نعرف عن الأدب المغربي
أو وردة الزمن المستحيل للشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي
جميل داري

استوليت على هذا العنوان "ماذا نعرف عن الأدب المغربي" من الصديق الشاعر حسان عزت، فقد ظللت محتفظا بمقالة له في أحد أعداد تشرين عام 1987 وهو يعرض فيها العدد 25/ 1987 من مجلة الكرمل العدد الخاص بالأدب المغربي.
لقد أكد الصديق حسان بأن ما نعرفه عن الأدب المغربي "لا يعدو شيئا مبعثرا هنا وهناك، في الرواية وكتب الفكر والأعمال الشعرية ومقالات منشورة في الصحافة ولأسماء معينة.." أنا شخصيا وجدت متعة حقيقية في ذلك العود الذي أعود إليه بين فترة وأخرى، ومن الأسماء الشعرية المغربية في ذلك العدد من الكرمل الشاعر المغربي عبد الرحمن بوعلي الذي نشرت له قصيدة بعنوان "مرثية لمجنون سيناء" وهي مهداة إلى روح الشهيد المصري "سليمان خاطر". قرأت القصيدة ورأيتها قريبة جدا من مزاجي، فهي مكتوبة بلغة سلسة وتفعيلة "المتقارب" المطواعة وبعفوية نادرة، وهذا المقطع الأول الذي يعطي صورة مكثفة عن القصيدة الطويلة كلها:
"هو البحر أيقظ فيك الرصاص
وأيقظ فيك التراب
وأيقظ فيك النخيل
هو البحر أشعل حرب البسوس
وأشعل فيك الذي يشتهيه "الخليل"
دمي يا دم الشهداء النبيل
دمي يا دم الفقراء النبيل"
مؤخرا بصدفة جميلة استطعت مراسلة هذا الشاعر الذي يعمل بالتدريس دكتورا في جامعة وجدة بالمغرب، فقد قرأت له مقالة نقدية ممتعة عن الحداثة الشعرية في أحد أعداد مجلة "الوحدة"، ورأيت أن باعه في النقد والبحث طويل كما هو باعه في الشعر، فشعره ضارب بجذوره في تربة الأصالة، ممتدة أغصانه الوارفة في سماء الحداثة والإبداع.
لقد أهداني أحد دواوينه المطبوعة خريف 1984 وعنوانه "وردة للزمن المستحيل"، وسرعان ما التهمت سطوره، وشعرت أن لا فواصل بين شعرنا المشرقي والشعر المغربي من حيث الجوهر، وإن كان ثمة فروق فهي شكلية لا تقدم ولا تؤخر، فالهموم الإنسانية واحدة: الحب، العدالة، الحرية..الخ. ومن هنا كان استشهاد الشاعر الدكتور عبد الرحمن بوعلي بوالت وايتمان:
"أي صرخات للنسوة اللواتي يحسسن بالمخاض، فيسرعن إلى البيت ليضعن المواليد،
أي نداء حي دفين ينبض الآن..دائما؟"
إن اللحظة الشعرية ترخي بظلالها الوارفة على قصائد المجموعة، ويبدو الشاعر مسكونا بهاجس الشعر، غارقا في خضمه حتى الأعماق. جاء في قصيدة " أول الجمرات":
غارق أيها البدوي
وغارقة فيك رعشتنا
غارق فيك وجه اندهاش الصباح
والكتاب الذي بيني وبينك
أودعته المستحيل
ومزقته
وكتبت على صفحة القلب
ما لا يقال
كيف أدركه الآن أو كيف يدركني
بعد أن صرت كهلا
وصرت بلا مطر أو دليل
كيف أهجره أو أواريه
أو كيف أتبعه نحو مرفأه
وكلانا قتيل.. قتيل...؟"
إنه هنا في هذه القصيدة كما في سواها يتمتع بحس عميق تجاه الحياة، معبرا عن هذا الإحساس بالفن الذي يكاد يكون الفرح الحقيقي الوحيد وسط تعاسة العالم وخرابه و"مستنقعاته الضوئية"، حيث " لا مطر.. ولا دليل؟ تحت سماء مكفهرة بخيلة. أما الدليل فيصبح فيه قولي ذات يوم موغل في الكآبة والغثيان: "كم دليلا سيخذلنا قبل أن نصلا؟"
ثمة تيه.. ومدن ملح..وقراصنة ومحاولات تترى لاغتصاب القصيدة وافتراع بكارتها ثم ذبحها لتغدو من شهداء التاريخ المجهولين، غير أن الشعر على الرغم من كل شيء عصي على الموت، يتمتع بقدرة هائلة على البقاء..على مواجهة فيوض التفاهة والخواء:
"يتيه الصحاب على بعد مترين
من جثتي أو دمي
أنا سيد الطين والياسمين
أنا سيد الحزن والمتعبين
أنا سيد الاحتضار"
الشاعر يمتلك رصيدا هائلا من القوة الروحية، حيث يستحيل أن يغدو رمادا في أتون الحياة، فهو:
"نرجس يرتمي في العراء
وسوسنة القلب مثقلة
بالأجنة والكبرياء"
لقد رأيت في مرآة هذا المقطع صورة شبيهة بكلام لم يضع في زحام الكلمات:
"رحم الأرض مكتظة بالأجنة
والقصيدة أحصنة كفرت بالأعنة.
في قصيدة "آخر الأنبياء" المهداة إلى "سعدي يوسف" نشم رائحة المنافي التي تتبرعم في أغصان القهر والمكابدة:
"ها هو الآن
ما بين منفى ومنفى
صامتا مثل سوسنة الحقل
أو هادئا مثل طير الجزيرة
أو آخر الأنبياء.."
ويرسم لنا الشاعر صورة خارجية لسعدي يوسف قائلا:
لم أكن أستريح إلى صمته
لم أكن أشتهي أن أرى وجهه
لم أكن أشتهي
أن أرى وردة ذابله.."
يبدو أن الشاعر قد سيطرت عليه هذه الحالة في لحظة بائسة، فهو يكره صمت سعدي يوسف ويتمنى لو رآه في ظروف أجمل وأفضل.. وردة نضرة في حدائق الوطن مثلا، غير أن الأمر لا يبدو لي كذلك، فما أجمل صمت سعدي يوسف الذي يخبئ خلفه براكين الشعر والقوة ونزيف الوطن، وما أجمل وجهه النبوي الملطخ بالشعر والمنافي والأشواق المزمنة، تستوقفني هنا جملة رائعة للمخرج والممثل اللبناني "ربيع مروة" في العدد الأخير من مجلة "الطريق":
"لنكنس كل الكلام الصامت والصورة الفارغة من على الخشبة، ونستبدله بالصمت المليء بالمعاني والصور"، وصمت سعدي نحبه لأنه مليء: بالمعاني والصور وأشياء أخرى، غير أن المقطع الصغير التالي للشاعر "بوعلي" يعطي صورة حقيقية وشعرية عن سعدي"
كان يبكي
على شرفة قد تداعت
ثم عانق صورته
واختفى في السؤال"
القصيدة بصفة عامة تترك في النفس آلاما ممزوجة بلذة مبهمة.. غامضة..
شكرا لهذا القلم المغربي الجميل، لهذا القمر الشعري الذي أتمنى أن يطل علينا دائما، ويزين سماء حياتنا الديجورية بنباريس الشعر رجما لشياطين الظلم و"فقهاء الظلام".

جميل داري
جريدة تشرين - الصفحة السابعة - الثلاثاء 10/8/1993 -العدد 5710

ليست هناك تعليقات: