إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 23 مارس 2008

بولعوالي التيجاني: حوار مع عبد الرحمن بوعلي 2

الشاعر عبد الرحمن بوعلي
تجـربـة الثـمانيـنـات والتسـعـيـنـات أضـافـت مـلامـح كـانـت غائـبــة للـقـصـيـدة المـغـربـيـة


أجرى الحوار: بولعوالي التيجاني*

ليس هناك ما أدبج به هذا الحوار الذي جمعنا بشاعرنا د. عبد الرحمن بوعلي غير هذه الإشراقات الشعرية التي عمدنا إلى سلها من ديوانه "وردة للزمن المستحيل"، لأن الكلمة الشعرية قادرة على أن تختزل الامتداد وتستوعب التساؤل الآتي من أغوار الذات:
سأشهد أن حبيبة قلبي
أباحت دمي
حين خنت البلاد التي
ترتمي في الشمال
وحين نسيت دمي
واختفيت
ص 27
على بعد مترين من جثتي
أستفيق على مطر ناعم
ثم لا يستجيب إلى لهفة القلب
وهج التراب
ص 24
يا بلادي
مرة أنت
ومر طعم موتاك
وقاس في الهوى العذري
هواك
ص 63
فأقول اسبقيني
وإذا ما التقينا
في جنوب الجنون
أو هضاب التعقل
واختصمنا
فاعلمي أننا
من فم واحد
واعلمي أنني
أشتهيك كما
أشتهي ضفة البحر هذا
وملح البكاء.
ص 41
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تختلف تجارب الحياة من إنسان إلى آخر، ويختلف التصور، لكن يبقى الإنسان متوحدا في الشعور، وإن تمايزت أعراقه وسلالاته، منساقا إلى نجوى الذات .. والممارسة الإبداعية هي أميل سلوك إنساني إلى إدراك هذه الحقيقة، لذا هل من تفسير للجدلية القائمة لديكم بين الأنا المبدعة التي يعكسها الشاعر فيكم والذات الإنسانية التي يمثلها الإنسان عبد الرحمن بوعلي؟
- أولا أود أن أشكركم على إتاحة هذا اللقاء مع القراء. وجوابا عن السؤال أقول إن الحاجة إلى الإبداع والتعبير عن الذات الإنسانية في أجل معانيها هي كحاجة الإنسان إلى الهواء والخبز والماء. ومن هنا لن أكون مبالغا إذ قلت إن الإبداع شيء مشترك بين جميع الناس، فقط هناك من يمتلك القدرة على التعبير بالكلمات ومن يمتلك القدرة على التعبير بأشكال أخرى عقلية أو جسدية..
والشاعر في نظري هو ذلك الإنسان الذي توفرت له الظروف والإمكانيات لكي ينقل أحاسيسه من مستوى المجردات إلى مستوى المحسوسات، وبالتالي، فليس هناك أي انفصال بين حياته وإبداعه، أي أن الجدلية التي تتكلم عليها هي من قبيل البدهيات، وهي من بين الأمور التي تم الحسم فيها في التراث.. غير أن ما يمكن إثارة الانتباه إليه ليس هو هذه الجدلية في حد ذاتها، أي الجدلية بين الأنا المبدعة والإنسان، بين النص الإبداعي وصاحبه، وإنما هو كيف تتحقق هذه الجدلية؟ أي تلك الطريقة التي بمقتضاها يصير الواقع شعرا، وتلك هي إشكالية الإبداع في كل العصور، وما ترانا نقول إلا كلاما قيل آلاف المرات بل ملايين المرات في تاريخ البشرية الشعري.
*حين نتصفح تجربة ما، يجدر بنا الإشارة إلى الفضاء الذي تم عبره تشكل هذه التجربة، إذن هل تهيئ المدار الشعري كفيل بأن يضمن نجاحا؟ ونحن على علم بأن عبد الرحمن بوعلي احتكم إلى هذا المفهوم، عندما وشى كينونته بالكلمات والحروف، واختار الشعر شريكا لحياته. من هنا كيف يمكن اعتبار الانسجام/الزواج الذي كان ولا زال بين الشاعر بوعلي والشاعرة المحترمة ثريا ماجدولين؟ هل هو التحام للشعر بالشعر في الشعر؟ أم سمو ثنائيي ما فوق العرف لتأسيس كون آخر، ماؤه من أنغام، وهواؤه من إيماء، وناره من كلمات...؟
- أولا، لا بد أن نعتبر الشاعر كائنا وإنسانا مثله مثل باقي الناس، ولهذا فإن له مساره الشخصي الذي يجعله ينتمي إلى الناس وإلى الشعب.. واختياره الشخصي تحدده ظروفه العامة والخاصة، ومنها كونه ينتمي- إضافة إلى انتمائه إلى الناس- إلى شريحة هي شريحة الشعراء. ولذلك، فعندما اخترت أن أقترن بالشاعرة ماجدولين- منذ أربعة عشر سنة- كنت متحفزا بعدة حوافز هي ما أسميته بالظروف العامة والخاصة. ومن تلك الحوافز انتمائي وانتماء الشاعرة إلى تلك الشريحة من الشعراء التي شكلت واجهة الشعر المغربي الحق. ذلك الشعر الذي استند في بنيته على واقعنا الممهور بالهزائم والنكسات، وأظن أن لقاءنا في هذه التجربة ومن خلالها هو الذي منحنا سعادة أكبر..إضافة إلى ذلك فقد أصبح لدينا ثلاثة أطفال (لبنى وصبرين وقيس)، وهو نتاج زواجنا الذي أعتز به وأعيشه باعتباره محطة من تاريخي الشخصي. من ناحية أخرى أعتبر أنك على حق عندما أعطيت للشعر كل هذه الأهمية في حياتي التي تأخذ طابعا شخصيا وعاما في نفس الوقت، ولك الحق أيضا في تأول ذلك.
* ما الكتابة الإبداعية؟ سؤال حبرت حوله قراطيس، وألفت فيه كتابات مختلفة ولا محدودة، قديما وحديثا، لكن رغم هذا المجهود الجسور، فالأغلبية الساحقة لم تستوعب بعد الالتزامات التي تطرحها الكتابة الإبداعية، لإزاحة هذا الخلط والخبط، لذا أتوخى أن تضعوا نوعا من الشروط التي يستوجب الاحتكام إليها حتى لا نخل بالعملية الإبداعية؟
- العملية الإبداعية لها قدسيتها، بمعنى أنها مسيجة بقوانين لا يمكن لأي كان كيف ما كان أن يتجاوزها، وإلا فإننا سنكون أمام شيء آخر لا يحمل هذه التسمية.. لكن لا يعني ان يفهم من كلامي هذا أن الإبداع له مواصفات محددة نستطيع أن نشرحها وان نقدمها للآخرين.. وبالتالي يمكن لهؤلاء إذا هم فهموا "الدرس" أن يبدعوا، ذلك أن الإبداع موهبة، واكتشاف هذه الموهبة في الغالب يكون في فترة متقدمة، واغلب الشعراء والكتاب- وخاصة الشعراء- اكتشفت مواهبهم في فترة طفولتهم وشبابهم، وأنا الآن أقول إن الإبداع - أو الكتابة الإبداعية- لا يحتاج إلى قانون صارم بقدر ما يحتاج إلى الموهبة أولا، ثم إلى المران والمراس والتجربة والمعاناة، بكل ما لهذه الكلمات من معان.
إن الموهبة ضرورية، ولذلك فإن أغلب الفاشلين في مجال الكتابة الأدبية والشعرية على الخصوص، إنما يكونون فاقدين لهذه الموهبة أصلا، أما إذا كانوا يتوفرون على الموهبة فيمكن أن يفشلوا أيضا إذا هم استسهلوا ما يمكن أن تجنيه العملية الإبداعية من المران والمراس والتجربة والمعاناة، أي لأنهم لا ينظرون في تجارب غيرهم من الأدباء والكتاب، أو لا يحيون في اندماج مع الواقع.
* لقد احتدت في العقود الأخيرة الصراعات الإيديولوجية، مما أثر بشكل أو بآخر في الممارسة الإبداعية، فأصبح أغلب ما يكتب لا ينشر إلا بعد تأمله تحت المجهر الإيديولوجيا، هذه السلوكات جعلت الأدب عموما ينجر إلى نوع من الاستلاب والتبعية إلى كل ما هو سياسي وإيديولوجي، هل هذا يكفي لضمان استمراريته من موقف أن "الإيديولوجيا معين للأدب" أو أن ذلك الانجرار سوف يكشف -طال الأمد أم قصر- عن الارتجاج العميق الذي يستوطن خلايا الأدب؟
- لا حاجة للتأكيد على أن الأدب ليس بريئا، أي أنه غارق في الواقع، وبالتالي فهو مسكون بالإيديولوجيا، ولذلك فالحديث عن الأدب بعيدا عن الإيديولوجيا هو حديث غير معقول ولا يمكن أن يقبل إلا ممن لا معرفة له بالأدب، بل لا معرفة له بالإنسان. هذا يعني أن الكاتب مهما كانت خلفياته فهو يتكلم من خلال الإيديولوجيا، وفي ذلك يستوي الجميع، أصحاب اليمين وأصحاب اليسار، وفي نظري، فقد يمر الأدب بفترات تطفو فيها الصراعات الإيديولوجية، بل وحتى السياسية،إلا أن ذلك لا يعني انه لا بد أن نرفض هذا الإنتاج، وكذلك فقد يمر الأدب بفترات يكون فيها بعيدا عن هذه الصراعات، ولا يعني هذا انه بمنأى عنها، لأن الأدب كما قلت مسكون بالإيديولوجيا.. ويكفي أن نبحث عن هذه الإيديولوجيا في ثنايا الكتابة. وأنا هنا أتساءل، بل وأسأل هؤلاء الذين يروجون لأدب بدون إيديولوجيا إذا ما كانوا في كتاباتهم هذه لا ينطلقون من مواقف إيديولوجية؟
* المتداول أن نقدنا الأدبي في منأى عن الممارسة الإبداعية، اللهم إلا بعض الاستثناءات، هل هذا صحيح؟ وإلى ماذا ترجع ذلك؟ هل إلى تخاذل النقد أم إلى قصور الإبداع؟
- من المؤكد أن النقد يواكب الإبداع، ومن الضروري أن يواكب الإبداع، وقد يشعر المهتم بالممارسة الإبداعية أن النقد غائب عن الساحة، وهذا شعور صحيح، ذلك أن أغلب الإبداعات المغربية بالخصوص عندما تنشر لا تجد من يقدمها إلى القارئ ويهتم بها، وفي نظري يرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها الوضع القلق-ماديا ومعنويا- للكاتب المغربي، شاعرا كان أو قاصا أو روائيا أو مسرحيا أو ناقدا. فهذا الوضع المرتج هو المسؤول عن غياب الفاعلية النقدية، وأنا لا أتعجب أما استفحال ظاهرة غياب المتابعة النقدية، ولا أشكو منها باعتباري مبدعا بالدرجة الأولى لأنني لا أجد ذلك غريبا إذا عرفنا أن الكاتب المغربي حتى وإن كان يحتل موقعا محترما في سلم الطبقات الاجتماعية، هو في وضع غير مريح لا يسمح له بالإبداع والكتابة. إنه معوز، والمعوز لا ننتظر منه أن يواكب ما ينشر، وإذا ضحى وفعل ذلك، فليس لنا الحق في مطالبته بالمساهمة في نشر الثقافة، ما دامت الدولة بقضها وقضيضها لم تعمل على إعطائه أي اعتبار، فكيف إذن نريد من الكاتب أن يقوم بعمله إذا كان محروما من التقدير، ومن الدعم المادي والمعنوي، ومن التشجيع بنشر أعماله، ومن تعويضه على جزء ولو ضئيل من معاناته وحرمانه؟ من هنا أفهم لماذا يظل الإبداع مغيبا، ولماذا لا يواكب النقد إبداعنا، وأعتقد أن الأدب المغربي سيكون له دور كبير لو فكر الجميع في وضع الكاتب المغربي وفي إعطائه الاعتبار اللازم.
* كيف تنظر إلى تجربة الشباب الإبداعية أو بالأحرى الشعرية، من موقع أنك ساهمت وتساهم في تقويم انحرافها وإثراء خبراتها وتوجيه خطواتها؟
- في نظري، التجربة الإبداعية للشباب الذين سيصيرون كبارا وكهولا، هي تجربة لم يهتم بها النقد المغربي للأسباب التي ذكرتها سابقا، وهي تجربة غنية، ما في ذلك من شك، ويكفي أن نستعيد الأسماء التي كان ولا يزال لها الصدى الطيب، وأن نقف عند إضافاتها المثيرة التي أغنت الحقل الشعري. إن الخلاصة التي نصل اليها بالتأكيد هي أن تجربة الثمانينات والتسعينات أضافت ملامح جوهرية للقصيدة المغربية كانت غائبة لدى جيل الستينات ( جيل السرغيني والمجاطي والخمار) كما كانت غائبة لدى جيل السبعينات بحكم التوجهات الظرفية (جيل عبد الله راج ومحمد بنطلحة والاشعري). وهي ملامح لا يمكن أن تخطئها العين الناقدة خاصة وأنها شكلت اتجاها متفردا لا بد من الحفر عليه والكشف عنه، وهذا اقل ما يمكن أن يقدم لهذا الجيل الشاب الطموح الذي أعطى للقصيدة المغربية صورة أوضح من تلك الصورة التي قدمناها نحن- أي جيلنا.
* في الأخير، ما هي الإرشادات التي تتفضلون بها إلى كل مبدع ناشئ وإلى كل من يغتصب حرمة الإبداع مدعيا انه يكتب نصا، إلى أولائك الذين تورطوا في خطيئة الأكل من فاكهة الإبداع؟ وها هم الآن بين أن يتخلفوا عن الركب وبين أن يستوقفوا الركب، بين أن يتسمروا في الركب، ولو على شفة هوة من مجهول رهيب؟
- لقد قلت لك سابقا أن التجربة الإبداعية لا تحتاج إلى دروس وتلقين، وكما أنني عندما بدأت الكتابة في بداية السبعينات، كنت أنطلق من خارج هذه الدروس، فلا شك أن الجيل الجديد سيعيد نفس الفعل.. ولكن يمكن أن أقول لهذا الجيل ما قاله روائي إنجليزي ذات يوم: "انظر خلفك في غضب".
ـــــــــــــــ
* نشر الحوار بالملحق الثقافي لجريدة الميثاق المغرب عدد الأحد 21-22 غشت 1994

ليست هناك تعليقات: