نشرت جريدة "الاتحاد الاشتراكي" في عدديها 6234 و 6235 بتاريخ 3 و4 شتنبر 2000 حوارين : الأول مع الدكتور جابر عصفور والثاني مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. وإذا كان الحوار مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قد طرح إشكاليات لا اعتراض عليها، اللهم أننا نسجل على الشاعر موقفه الذي يتبناه ضمنيا من خلال تشجيعه -بالحضور - لهذا النوع من المهرجانات التي تدخل في إطار ما أسميه شخصيا بمهرجانات البهرجة والأصباغ التي يغيب عنها أدباء المغرب الحقيقيون(!؟) ، فإن ما طرحه الدكتور جابر عصفور من وجهة نظر، وفي موضوعات هامة وجديرة بالاهتمام والدراسة والتمحيص، أثار لدي تساؤلات.
ولعله انطلاقا من هذه النقطة، وبقطع النظر عما أكنه للدكتور من احترام ، بدا لي أنه من الضروري الخوض في مناقشة الأفكار الواردة في الحوار، ليس انطلاقا من الاخلاف ، ولكن انطلاقا من الخلاف العلمي والموضوعي. ويجدر بي -بدءا - أن أقدم توضيحا أوليا ، يتعلق بحدود هذا الحوار الذي أنعته هنا بالحوار العلمي، ذلك أنني متأكد أن الدكتور جابر عصفور سوف لن يكون سعيدا بوجهة نظري هذه في أعماله ، ثم إن الكثير ممن يقرأون كتب الدكتور جابر عصفور ، سواء في مصر أو المغرب ، قد يقفون ضد الأفكار التي سأعبر عنها ، إن بدافع تقدير هم للدكتور جابر عصفور ، وإن بدافع حسن النية التي تذهب بهم إلى حد تقديس ما يصدر عن الدكتور جابر عصفور. وعلى أية حال فهذا رأيي فيما يكتبه الدكتور جابر عصفور ، وهو رأي قد يجد صداه عند البعض وقد يعترض عليه الآخرون. وفي كلتا الحالتين فإن الذي يهمني بالدرجة الأولى هو مناقشة أفكار الدكتور جابر عصفور.
· مسلمات أولى:
وقبل الدخول في الموضوع ينبغي أن أؤكد أنني أنطلق من مسلمات أساسية أود أن أذكر بها في بداية الكلام ، وهي مسلمات تكونت لدي من خلال عقود من الصراع والمواجهة بين ثنائية المشرق والمغرب. أولىهي المسلمات احترام الاختلاف وجعله أساس أي نقاش ثقافي. وثاني هذه المسلمات أن الأفكار التي أعبر عنها إنما تعبر عن وجهة نظري في الموضوع، وللآخرين أن يأخذوا بها إن شاؤوا أو يرفضوها إن شاؤوا كذلك. وثالث هذه المسلمات أن فكرة الصراع بين المشرق والمغرب هي من ناحية فكرة قديمة، ومن ناحية أخرى لا تزال تعشش في عقول أغلب المثقفين المشارقة والمصريين منهم على وجه الخصوص. ورابع هذه المسلمات أن بعض المثقفين المغاربة - والشباب منهم على وجه الخصوص -لايزالون يشعرون بعقدة النقص القديمة تجاه المشرق والمشارقة، وذلك بسبب عدم اطلاعهم على النقاشات والمساجلات بل وعلى النضال الذي قاده المثقفون المغاربة في مرحلة السبعينات والذي انتهى إلى الحسم في قضية الأبوة المشرقية على الأدب المغربي، وإلى الإعلان الواضح عن استقلالية الأدب المغربي عن الأدب المشرقي وفرادته وخصوصيته وقوته وتمثيليته. كل هذه الأمور حسمها المثقفون المغاربة في السبعينات، وتأكد للمشارقة أن الدور المغربي دور طلائعي ومتقدم جدا . وقد ترسخ هذا الدور بشكل كبير وجلي عندما تبنى المثقفون المغاربة المشاريع الثقافية الجديدة والطلائعية في جميع الأجناس الأدبية التي شملت الشعر والمسرح والنقد والفنون التشكيلية.
· أنا والدكتور جابر عصفور
أسمح لنفسي بأن أستعير من الراحل رولان بارط هذا العنوان الذي اختاره بدقة وذكاء لإحدى مقالاته وهو " أنا وبروست" للتعبير عن شيء أراد التعبير عنه. والحق أنني وأنا أستعير هذا العنوان، أستعير أيضا نفس التعليق الذي أضافه رولان بارط ، وهو أنني لا أضع نفسي في مستوى الدكتور جابر عصفور ، الشخصية المرموقة من خلال المؤسسة التي يرأسها والمنابر التي يكتب فيها والمهرجانات التي يحضرها. لكن لسبب بسيط وهو أن الإشكاليات التي طرحها الدكتور جابر عصفور هي نفس الإشكاليات التي تشغلني، مع فارق جوهري وهو أن ما قاله الدكتور جابر عصفور لم يقنعني كواحد من الباحثين في الأدب العربي الحديث والعلوم الانسانية والاجتماعية . وسأبين لماذا؟ وكيف؟
· ديكتاتورية الإعلام
والحق أن الدكتور جابر عصفور أصبح واحدا من الباحثين الذين يملأون المشهد الثقافي العربي، وذلك بحضوره الكبير ، إن عن طريق التأليف أو حضور الندوات والمؤتمرات أو الكتابة في المجلات، خاصة مجلات الخليج، أو الظهور على القنوات الفضائية.. وقد جعله هذا الحضور يتبوأ مكانة "مرموقة"، ويصبح شخصية عامة بكل في الكلمة من معنى، مما يترتب عن ذلك أن ما يقوله الدكتور جابر عصفور لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرد. وأود هنا أن أؤكد على حقيقتين ، الأولى أن تحقيق مكانة كهذه لا يعني بالضرورة تحقيقا لمكانة علمية فريدة، فوسائل الإعلام الكثيرة يمكن أن تجعل شخصا يتبوأ مكانة ما دون أن يعني ذلك استحقاق هذه المكانة.وهناك وسائل تخصصت في صناعة الرموز الثقافية وغيرها مثلما تخصصت وسائل أخرى في صناعة الإشاعة .وبالمقابل هناك رموز ثقافية كبيرة ، ويكفي أن نتذكر بعض هذه الرموز الثقافية التي كان لها تاريخ ولايزال، إن في المشرق أو في المغرب،لنكتشف هول فاجعة الثقافة العربية التي أصبحت تقوم على القدرة على التلميع والتجميل بدل قيامها على القدرة على البناء المؤسس. أما الحقيقة الثانية فهي أن أي مكانة يصل إليها المرء إذا لم تكن منطلقة من حقيقة لا يمكن أن تظل على حالها، ولا يمكن أن تعطي لصاحبها ورقة المرور إلى عالم الكبار من أمثال طه حسين أو رولان بارط أو أمبرطو إيكو .. وغيرهم كثير. وخير دليل أن أولئك الكبار حتى وإن كان الموت قد غيبهم عنا فأسماؤهم لا تزال تزين دراساتنا.
وشخصيا فاجأني الحوار مع الدكتور جابر عصفور بمضامينه وأفكاره وطرائق التفكير التي أشاعها. وقد تبين لي أيضا أن الدكتور جابر عصفور رغم قيمته الإعلامية ،لم يكن مقنعا لي في الكثير من القضايا التي طرحها، وبدا لي وكأنه ينوء تحت ثقل مشكلتين كبيرتين : المشكلة الأولى وهي مشكلة تلك العقدة التي كانت لدى المثقفين المصريين قبل السبعينات والتي سبقت الإشارة إليها. أما المشكلة الثانية فهي التي تهم موضوع الحداثة كما يفهمها الدكتور جابر عصفور ، خاصة ما تعلق بتوصيفه للتبدلات الإيبيستيمولوجية التي طالت حقل الثقافة العربية أو بنظرته للمناهج الغربية أو ما تعلق بالحداثة على وجه العموم . وسأبدأ بتوضيح المشكلة الأولى، أما المشكلة الثانية فسأناقشها في فقرات أخرى لاحقة.
· علاقة مشرق/ مغرب:
علينا أن نرسم - وإن بإيجاز - علاقة المغرب بالمشرق أو بالأحرى علاقة المشرق بالمغرب في أبعادها الحقيقية حتى نضع أفكار الدكتور جابر عصفور الخاصة بهذا الموضوع في إطارها الصحيح ،وبإمكاننا أن نقول إنه ، بين بداية السبعينات ونهاية الثمانينات، بدأ اكتشاف المشارقة للأدب المغربي. وقد كانوا إلى ذلك الوقت لا يعرفون عن هذا الأدب إلا النزر اليسير أو يجهلونه بالمرة . وفي نظر المغاربة كان المشارقة مقصرين، خاصة وأن تلك المرحلة بما شاع فيها من أفكار قومية عربية كانت تفرض عليهم أن يعرفوا ما كان يقع في المغرب بحكم ادعائهم الريادة في المجال الأدبي. لكنهم ظلوا يبررون نقصهم هذا بتبريرات شتى، ليس لها أي أساس. وعندما بدأت دائرة الاهتمام بالأدب المغربي تتأسس، كان تأسيسها على يد المرحوم سيد حامد النساج من خلال محاولاته التعريفية بالأدب المغربي. ورغم أن هذه المحاولات كانت رائدة بالمقياس التاريخي، فقد انبرت لها الأقلام تصحح اعوجاجها . وشهد المشهد الثقافي نوعا من الاحتجاج على هذه المحاولات المبتسرة والمشوهة للأدب المغربي. واستمر الشد والجذب إلى أن بدأت محاولات التعرف على الأدب المغربي تنضج وتتأسس على أسس سليمة، وإلى أن بدأ المشارقة ينزلون من أبراجهم العاجية عندما اكتشفوا القيمة الفنية للأدب المغربي، فاعترف المنكرون رغم أنفهم بأهميته وفرادته. وقد تجذرت هذه القيمة التي تعدت مجال الأدب إلى مجالات النقد والفلسفة والفكر والتراث من خلال تعرف المشارقة على إنتاج غني ولا مجال للتنكر إليه. وهكذا برز نقاد وفلاسفة ومفكرون ومشتغلون بالتراث، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وطه عبد الرحمن ومحمد برادة ومحمد مفتاح وغيرهم كثير. وكان هذا الاعتراف بداية لمرحلة جديدة شهدت إشادات بالنبوغ المغربي على يد أكبر المثقفين المصريين ونذكر منهم الدكتور المرحوم طه بدر والدكتور عبد المنعم تليمة… وإذا كان هذا الاعتراف قد جاء نتيجة لنضال المثقفين المغاربة من جهة،ولانفتاح المشهد الثقافي المصري الذي كان يشهد - ولا يزال في اعتقادنا - فترة ضمور وانكماش من جهة ثانية، ولتفتح بعض المثقفين المصريين الموضوعيين من جهة ثالثة، فإنه كان إعلانا عن اعتراف تأكد من خلال الإنتاج الأدب والثقافي المغربي. وبذلك انتهت فترة الصراع بين الريادة المصرية والتبعية المغربية.وقد ذهب بنا الظن أن هذه المشكلة قد انتهت وتركت مكانها لعلاقة أخرى لا ينظر فيها إلا إلى الإنتاج بغض النظر عن أصول مؤلفه. لكن يعود بعضنا إلى نقطة البداية لأسباب كثيرة على رأسها وقوع الانقطاع في ثقافتنا المغربية وغياب الرموز وظهور الجيل الجديد المفصول عن ماضيه، وظهور بعض الكتاب المشارقة الذين لا زالوا يحنون لمرحلة ما قبل السبعينات.
ذلكم هو بالضبط وضع الدكتور جابر عصفور كما يظهر من خلال الحوار. وهو وضع تجلى من خلال ثلاث إشارات دالة على هذا الحنين إلى تلك المرحلة من التعالي المشرقي: الأولى حين انبرى مستعرضا الفتوحات النظرية والنقدية بقليل من الحذر ، وهو يعرف أن المغاربة مشهود لهم بالتفوق في هذه المجالات، وقد يكون الدكتور جابر عصفور قد ظن نفسه موجودا في بلد من بلدان الخليج، مع العلم أن مثقفي هذه البلدان قد تميزوا هم كذلك، كل في مجال تخصصه ، وأصبحوا ينتجون أعمالا كبيرة وراقية. وثاني هذه الإشارات أن الدكتور نبه من دون أن يشعر إلى ما يعتقد أنه تحيز لدى المفكر محمد عابد الجابري، ولا أدري إذا كان من اللائق أن يحشر في هذا الحوار اسم المفكر المغربي ، هذه القلعة العلمية ، فلكأن الدكتور جابر عصفور يريد أن يضع نفسه في مستوى الدكتور الجابري، أو كأنه يريد أن يلصق بالمغاربة صفة التعصب وهو يعلم علم اليقين أن الأقرب إلى التعصب واصطناع الريادة والقيادة في كل شيء وبدون حق هم إخواننا المشارقة والمصريون على وجه التحديد. وثالث هذه الإشارات هي تجاهل الدكتور جابر عصفور لكل المجهود المبذول من طرف المغاربة ، خاصة ذلك المجهود الذي تمثل ذلك في الدراسات النقدية والأكاديمية والفكرية التي غزت المشهد الثقافي العربي.
· ما الحداثة ؟
أصل إلى النقطة الأساسية التي أثارت انتباهي أكثر ، ليس في الحوار فحسب ، بل ومن خلال الإنتاجات التي قدر لي أن أقرأها للدكتور جابر عصفور هي التي سأفصل فيها القول، وسأعبر عنها بسؤالي : ما الحداثة ؟ وهي باختصار ما يمكن أن يوضع تحت عنوان كبير هو محدودية فهم الحداثة الغربية عند الكثير من الباحثين والدكتور جابر عصفور واحد منهم . وهذا ليس بالأمر المستبعد عن ثقافتنا، ذلك أننا في الكثير من الإنتاجات التي تدعي الطليعية والحداثة نفاجأ بأن أصحابها لا يعرفون من هذه الطليعية والحداثة إلا الألفباء . ولا غرابة في ذلك، ففي مجتمع تسود فيه أمية المثقفين والأكاديميين وفي عالم يصبح فيه عدم الاستعداد لدفع فاتورة العلم الحقيقي شعارا مرفوعا بامتياز ، لابد أن ينشأ هذا النوع من النشاز الثقافي والعلمي. وقد نفهم هذه الظاهرة إذا أخذها بعين الاعتبار الوضع المتردي الذي يعيشه الباحثون في الأقطار العربية وانحطاط قيمة العلم في المجتمعات التي لا تفكر بالعلم ، وهذه ليست مشكلة ، لكن المشكلة هي عندما يدعي البعض قدرة لا يملكها ،وعلما لا يفهمه ، فيشيع في الناس علما مغلوطا ومزيفا ، وينسج حول نفسه هالة من الأنوار . ويدعي مناهج ينسبها لنفسه . عندئذ يختلط الحابل بالنابل ، وتصبح الأجناس الأدبية جنسا واحدا، وتصير البنيوية سوسيولوجيا، وتبدأ مرحلة أخرى عندهم يسمونها الحداثة ، ونسميها اللغو. فأي حداثة هذه التي يتحدث عنها الدكتور جابر عصفور؟
· توصيف التحول الإيبستيمي:
يستحق التوصيف الذي أعطاه الدكتور جابر عصفور للتحول الإيبستيمي وقفة طويلة، لكننا لا نريد أن نثقل على القارىء وسنكتفي ببعض الإشارات. فالدكتور جابر عصفور يرى أن هناك أمورا تلخص هذا التطور : ومنها أننا انتقلنا من المعرفة السمعية إلى المعرفة البصرية… وهذا يعني أننا انتقلنا من الثقافة التقليدية التي تعتمد على التكرار… إلى ثقافة أخرى (لم يسمها الدكتور جابر) وهي ثقافة العين والكمبيوتر والأنترنيت والتلفزيون والأجهزة الإلكترونية. والأمر الثاني الذي يراه الدكتور جابر عصفور هو أننا انتقلنا من النغمات والإيقاعات البسيطة إلى نوع من البوليفونية المتعددة والمعقدة. أما الأمر الثالث فهو أننا انتقلنا من الشفهية إلى الكتابية. وربما تكون قصيدة النثر ثمرة هذا الانتقال(؟!).
هكذا يشخص الدكتور جابر عصفور الوضع العام الذي نعيشه في نهاية القرن العشرين . وهو - لعمري - توصيف يدعو إلى التساؤل، بسبب اختزاليته الشديدة وسورياليته وسطحيته التي لا تغرب عن بال المرء البسيط ناهيك عن الباحث المدقق. وقد يتساءل متسائل بحسن نية عن أي عصر يتحدث الدكتور جابر عصفور؟ هل يتحدث عن عصرنا نحن العرب "هنا والآن" ، أم أنه يتحدث عن بداية القرن التاسع عشر وعصر الحملة الفرنسية عندما بدأت الحداثة تزحف على عالم التقليد؟ أم أنه يتحدث عن القرون الأولى، أم أنه يتحدث عن عصر لا يزال لم يظهر بعد. لقد اختلط الأمر علينا كما اختلط على الدكتور جابر عصفور. لكنني أتصور أنه يتحدث عن نهاية القرن العشرين، وعن التغييرات التي حدثت في هذا الزمن الجديد. وإذا كان الأمر كذلك، وكان تصوري صحيحا، فلا أظن أننا دخلنا في هذا الزمن الجديد،بدليل أن مجتمعنا لا زال لم يعمم خدمات الأنترنيت، وأن الأجهزة الإلكترونية (ولا أعرف عن أي نوع يتحدث الدكتور) لا زالت لم تصل بعد. وخلاصة القول إن الدكتور يسبق الأحداث، ويتعلق بنظريات وقضايا هي حقائق في الغرب لكنها أوهام عندنا.
وعلى العموم فإن مثل هذا التوصيف الذي يعطيه الدكتور جابر عصفور إنما هو تسجيل لأمور سطحية وبعيدة عن واقع الثقافة العربية، ويمكن أن يتحدث فيها أي انسان عادي،وكم كان بودي أن يتحدث - انطلاقا من واقعنا نحن - عن أمور أعمق يمكن أن تنير الطريق لمعرفة التحولات الإيبستيمية التي يدعي أنه يستعير منهجه في يبنيها من ميشال فوكو. ذلك ما كان ينقص الدكتور جابر عصفور إذا كان يريد الدفع بالنقاش إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع ،وحتى تتضح الصورة للباحثين والدارسين الذين يهتمون بالموضوع،وهو أمر تحدث فيه مفكرون ودارسون يملكون قدرة التفكيك،ولهم حججهم الدامغة، وكان بإمكان الدكتور جابر عصفور أن يستحضر هذه التحليلات لكنه لم يفعل، فهل مرد ذلك إلى عدم اطلاع الدكتور جابر عصفور عليها(؟!)أم أن الدكتور جابر عصفور لم يعد في حاجة لمواكبتها بسبب هجمة عصر التكنولوجيا والأنترنيت والأجهزة الإلكترونية؟
· آراء في حاجة إلى تمحيص
النقطة الثانية التي تثير الانتباه أيضا في حوار الدكتور جابر عصفور والتي تشكل الوجه الآخر لفكرته عن الحداثة هي آراؤه النظرية المتهافتة. ومن ذلك نظرته إلى الأجناس الأدبية ، وخاصة خلطه العجيب بين الأجناس الأدبية ، حتى صارت تشكل عنده جنسا واحدا. ولعل مايؤسف له أن الدكتور جابر عصفور في حديثه عن هذا الموضوع أعاد الفكرة التي روج لها بعض النقاد قبل عشر سنوات على الأقل، وأخذها هو عنهم فيما بعد، وهي القول بأن عصر الشعر قد انتهى ، وأن العصر هو عصر الرواية. نعم إنها فكرة غير حقيقية، وقد روج لها بعض النقاد، بكل ما أوتوا من قوة. وقد اسعدني مؤخرا أحد الشعراء والنقاد الحداثيين صلاح بوسريف عندما أشار إلى أن فكرة انتهاء الشعر إنما هي فكرة مغلوطة. نعم إنها فكرة مغلوطة ، وكان على ناقد في حجم الدكتور جابر عصفور - الباحث الرزين - أن ينتبه إليها، لكنه سار في نفس النهج الذي سار عليه من سبقه من النقاد المتسرعين والمتعجلين.
من ذلك أيضا خوضه في مسائل غير دقيقة، بعضها يحتاج إلى تمحيص والبعض الآخر لم يعد مطروحا. أما النوع الأول فقوله أن إحدى وظائف الرواية تحقيق الشعرية (؟!)، وأن الرواية تحقق وظيفة المسرح (؟!). وقد صدر عنه هذا الكلام في معرض حديثه عن اختلاط الأجناس الأدبية، وفي نظري فإن كلاما من هذا القبيل ليس كلاما معبرا عن راهن البحث المعاصر في الأدب. وأما النوع الثاني فحديثه المتأخر جدا عن علاقة المسرح بالديموقراطية (؟!)،
ونحن في المغرب وفي مختلف الأقطار العربية لم نر المسرح في أبهى ازدهاره إلا في فترات غياب الديموقراطية. صحيح أن الدكتور يتحدث عن المسرح في عهد اليونان، لكن ما أبعدنا عن عصر اليونان!
ومن ذلك أيضا حديثه عن مسار النقد الذي انتقل من وجهة نظره من دراسة الصورة وعصر الصورة ،إلى دراسة المسرح والرواية، ولكن لم يبحث النقاد عن المكونات الأساسية والتفصيلات الصغرى التي تغيرت في أدبنا. نعم هذا هو المسار الذي سار فيه الدكتور جابر عصفور، من دراسته للصورة الفنية ، إلى عصر الرواية، ولكنه ليس المسار الذي سار فيه النقاد العرب الحداثيون الذين جربوا المناهج الغربية الجديدة، ويكفي الإشارة إلى شكري عياد ومحمد برادة وعبد المنعم تليمة وخالدة سعيد وكمال أبو ديب ومحمد بنيس ….على سبيل المثال.
ومن ذلك أيضا حديثة عن نظرية كولدمان في الإنتاج الأدبي وربطه بالوعي الجمعي، واختزاله لعمل عظيم قدمه كولدمان ، ثم حديثه عن المبدع وفترات التحول وعلاقتها بالتحول الأدبي.
ولم يكتف الدكتور جابر عصفور بكل هذا، إنما تحدث عن مراحل تحول النقد الأدبي، فاختزل كل تاريخ النقد بأن ذهب إلى القول أنه شهد تحولا في المرحلة الأولى من المنهج التقليدي إلى البنيوية(؟!)، ثم نحن الآن نعيش المرحلة الثانية في تحول هذا النقد: العولمة ، انهيار المعسكر الاشتراكي… على الخطاب النقدي يفتقد إلى النسغ الأدبي الذي يسخدم المصطلحات (؟!) …نعم ، أية مغالطة تلك عندما نزعم أننا انتقلنا من المنهج التقليدي إلى البنيوية (وحدها)، ثم أي اختزال وتعسف على النقد العربي عندما نربطه بالعولمة التي لم تأت بعد إلينا بعد، وبانهيار المعسكر الاشتراكي(؟!)ثم أي تقييم هذا الذي يشطب على كل المجهودات النقدية حين يدعى أن نقدنا يفتقد إلى النسغ الأدبي(!)؟
· نظريات بالية
ويرجع الدكتور جابر عصفور مرة أخرى للحديث عن نظريات بالية ومتقادمة، فيربط بين الرواية والمجتمع المدني، وبين ازدهار المسرح وخروج المرأة ، وبين المسرح والمدينة الديموقراطية. والحق أن قضايا كهذه كانت تطرح في الستينات، أما اليوم فلا أظن أن ناقدا متمرسا مازال يلوك مثل هذا الكلام، ذلك أننا في العالم العربي لم نعد نفتقد إلى المدينة، كما أن المرأة أصبحت تؤثر بشكل كبير في تطور المجتمع، كما أن بعض دولنا أصبحت تنعم بشيء من الديوقراطية. إضافة إلى ذلك، فهذه القضايا ليست قضايا آنية، إنما الآني هو واقع النقد الذي تطور وبات يفرض الكثير من الإنصات إلى العمل الإبداعي.
· عبقرية جديدة
وآخر ما تحدث فيه الدكتور جابر عصفور النقد الثقافي ، هذا المنهج الجديد الذي نسبه الدكتور جابر عصفور لنفسه ، مدعيا أنه طبقه ولكن لحسن الحظ وجده يطبق عند نقاد غربيين ، في حين أن هذا المنهج معروف ومشهور ظهر في الثقافة الأنجلوساكسونية التي تأثر بها الدكتور جابر عصفور. وقد أصبحت توجهات هذا الاتجاه النقدي ظاهرة بل ومسيطرة على الكثير من النقاد الأنجلوساكسون. وفي السنوات الأخيرة انتقل هذا النقد إلى المشهد الفرنسي.
· خاتمة
وختاما أتمنى ألا يقلق رأيي هذا الدكتور جابر عصفور، فما كان قصدي الهجوم عليه، ولكن التنبيه إلى ما جاء في حواره من آراء لم تقنعني ، وأثارت لدي تساؤلات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق