إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 فبراير 2008

بشير القمري: "قراءات في شعر الشاعر عبد الرحمن بوعلي"


function fenetreAlbum(lien)
{
window.open(lien, 'Sample', 'toolbar=no,location=no,directories=no,status=no,menubar=no,scrollbars=yes,resizable=yes,copyhistory=no,width=420,height=400');
}
قراءات .. الشاعر عبد الرحمن بوعلي:
كتاب التحولات، التناص المركب
بشير القمري


لا يحتاج الشاعر عبد الرحمن بوعلي إلى تقديم، فما أنجزه على مدى ثلاثة عقود من الشعر، منذ صدور مجموعته الأولى أسفار داخل الوطن (1977) إلى مدن الرماد (2005)، يعكس ما انفرد به في تجربته الخاصة وما يجعله منفصلا - متصلا ب جيله وعنه أيضا·
أتحدث هنا عن جيل السبعينيات رغم ما يحمله المفهوم من تجاوز ضمني متى نظرنا إليه وفيه تقليديا، الجيل الذي أصغى إلى العديد من متغيرات الكتابة والنص الشعريين، ليس فقط في المغرب، بل في جميع أقطار العالم العربي· وهنا علينا أن نؤكد حقيقة نقدية دامغة هي أن تجربة الشعر المغربي بأكمله كانت دوما على اتصال بالشعر العربي الحديث والمعاصر على السواء، وتظل كذلك بالنسبة إلى الحاضر· من ثم: تكتسب مغامرة الشاعر عبد الرحمن بوعلي صلابتها ومصداقيتها وهويتها ورهاناتها، وتزداد على مستوى التلقي، رسوخا عندما نستدرك ونعي السياقات الكبرى لهذه المغامرة المتوثبة التي لا تأتي معزولة عن تجربة صاحبها في تذوق الشعر العربي، رغم اهتمامه، علي مستوى الحياة العلمية والمعرفية، بالبحث في مجال الرواية والترجمة·
الشاعر عبد الرحمن بوعلي ًسبعيني لكنه لا سبعيني أيضا حين نتأمل بعضا من قبسه في منتخباته كتاب التحولات وقصائد أخرى (م: مجلة ضفاف· مطبعة طريفة· بركان المغرب 2005 - 149 صفحة) هذه المنتخبات هي عبارة عن نصوص متفرقة كتبها الشاعر مستخلصا بعض لحظاته الوجودية المتوترة بين المغرب وسلطنة عمان حيث عمل أستاذا للأدب العربي على مدى ثلاث سنوات· ويهمنا من هذه المنتخبات نص تحولات يوسف المغربي الذي حاز به الشاعر على جائزة البابطين للإبداع الشعري في صنف أفضل قصيدة (دورة ابن زيدون· قرطبة 2004)
يهمنا، قلت، لكنه يقلقنا أيضا، والقلق هنا ليس مرده رؤية الشاعر التراجيدية، بل القلق المنهجي - النقدي والنظري في تصور ومقاربة هذا النص - العلامة وهو يمتح من معين شعري زاخر مترامي الأطراف، لغة ومعجما وتركيبا ودلالة، مما يجعل الفهم ثم التأويل صعبين: من أين نبدأ؟ هذا السؤال البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي يتحدانا في مواجهة هوريكا الهندسة: وجدتها! وجدتها، والذي يجعلنا نستعيد لحظات مؤسسة للشعر والشعرية في النص·
قصيدة - نص تحولات يوسف المغربي عبارة عن ستة عشر مقطعا تتكلم وتتحكم فيها، في لغتها، كل عناصر التشعير: الكثافة، الاقتصاد، الإيحاء، الرمز، الغنائية، الإنشاد، ونحس أنفسنا، ونحن نقرأ النص إشاريا، كأننا في مأتم أو في جنازة واعتراف بذنب لم يقترف وأن المحكوم عليه برئ لكنه مدان، وعوض أن يتخاذل يصر على المواجهة· يقول النص في المقطع الأول:
في مملكة الوقتتأخذني الريحعلى كتفيهاوتتوجني ملكايحلم بالكلمات،في مملكة الوقتتحملني الريحعلى كتفيها،فأرى مدنا فارغةوأرى صوراوقرى ضائعة ولغات،وأرى وطنييهجره الأحبابويسكنه البؤساء·· الخ (ص 14)
لو اكتفينا بالقراء التناصية لوقفنا عند ويل للمصلين، لكننا، عندما نمعن النظر، سيتضح لدينا أن تناص الشعر - تماهي الشاعر مطلوب مادام زمن الشعر العربي، رغم تقطعه، زمن مسترسل، يحمل في ثناياه سيرورة وصيرورة الوقت الواحد لأصوات متعددة هي صوت النابغة وزهير والخنساء وأبي هذيل والمتنبي والسياب ودرويش، ثم: عبد الرحمن بوعلي الذي يسير على وتيرة الكنوني، المجاطي، راجع في المغرب، لكنه يحيد عنهم إذ لا يريد، ولا يمكن، أن يكون خير خلف لخير سلف، فالشعر لا يورث ولا يكتسب وإنما يتخلق· وأعتقد في هذا السياق السريع، أن عبد الرحمن بوعلي شاعر يخلق قصيدته من رحم ما تحقق من تراكم قبله، وكأنني به يسعى إلى جعل الشعر شاهدا على الفجيعة الدائمة التي عاشها الشعراء العرب قديما وحديثا ويعيشونها راهنا في ظل الكماشة الحضارية التي تقبض على الكينونة والوجود العربيين، من ثم يختار الشاعر عبد الرحمن بوعلي لغة سهلة ومعجما متداولا، لكنه يلبسه ويغيشه بمسوح المفارقة، إذ يقول في نهاية المقطع الأول:
وأرى لغتيتعبرني لاهبة:- أأنا المفتون بوقتيوالمرمي على قارعة الأحباروأقبية الماضي؟أأنا الموعودبرائحة الجنة والموتى؟أأنا سيزيف المخبول؟أأنا القاتل·· والمقتول؟ (ص 14 - ص 15)
الشعر - اللغة: مسألة نقدية، لكنها في فعل الشعر مسألة جمالية اذ تترجم علاقة الشاعر بالعالم والأشياء والموجودات وتتحول إلى مجذاف لخوض عباب القول ويم الكلام الشعري· الشاعر يقول المرمي ولا يقول الملقى، والمرمي أكثر سيولة وغزارة، لأنها تترجم وعي الشاعر الجمالي باللغة وبالحدث، لأن المرمي كائن و الملقى شيء وتنداح بعد ذلك المقاطع: في المقطع الثاني الوقت يتربص (ص 15)، أما في المقطع الثالث فيستدعي الشاعر صورة يوسف بعد استدعاء صورة سيزيف في المقطع الأول ويتناص مباشرة مع القرآن، لكنه يمنحه مجازا آخر:
أنا يوسف يا أبتوهم الإخوة باعونيبرغيفما علمواأن الحكمة زادي (ص 18)
تناص يخلخل الرؤية الفجائية ويدعو إلى الإدانة، إدانة الزمن الأخرس (المقطع الرابع، ص 20) و الزمن الفج نفسه، ص 21) قبل أن يصرخ الشاعر طبعا:

زمن هذاأم زبدأم حجرات؟مدن هذيأم مقصلةأم شرفات (المقطع السادس: ص 24)
الزمن ثم القضاء، أو الزمن - القضاء، وهم المؤشران القائمان في الشعر منذ الأبد، لا توحد بينهما سوى اللغة، سوى نظام اللغة، وتلك ثلاثية يمكن على ضوئها قراءة كل المتن الشعري العربي والكوني: نظام الزمن، نظام الفضاء، وبينهما نظام اللغة، أي نظام الكتابة، التجسيد المادي للغة، غير أن الكتابة لا تكتفي باللغة كما هي، بل تعيد إنتاجها (اإنتاجيتها كما تقول جوليا كريستفا) لأننا عندما نكتب، نهدم نظام اللغة، نبنينه ولا نبنية فحسب· وأعتقد أن الشاعر عبد الرحمن بوعلي يشخص بقوة ورهافة هذا الهدم - البناء، لأنه يدرك ما للكلمة واللفظة والعبارة والتركيب والجملة والمقطع والنص من ممكنات مغلقة - مفتوحة، وكأني به صانع لتحفة معدنها اللغة الذي لا يكتفي بالنحت والصوغ، إذ ينبغي الصهر·الشاعر بوعلي يصهر اللغة في أتون الصياغة وبذلك يحقق توازن الشعرية التي لا تريد أن تبتعد وتتيه في مهمة التجريب المفرط وصحراء الإبهام، كما هو شأن عدة تجارب شعرية عربية تولد ميتة نتيجة العمليات القيصرية الدائرة في فلك الشكلية الفارغة، وما أكثرها، من المحيط الى الخليج ومن الخليج الى المحيط، باسم الحداثة الجوفاء المعطوبة التي تكرس الخلل والعمى والتيه مجانا وبلا طائل· ليس بالمعنى الشعري فقط، بل بالمعنى الثقافي أيضا، ذلك المعنى الذي ضاع في حمأة دوامة قتلت روح الشعر وأغرقت سوقه بدكاكين كاسدة تتاجر في نفس المنتوج الذي يشبه لعب الأطفال الزائفة·من ثمة: تكون مثيلات تجربة الشاعر بوعلي وأضرابه واردة للعودة الى مملكة الشعر، الى إيثاكيا الفقد والفقدان على غرار ما نجده عند محمد بنطلحة وادريس الملياني ومحمد الأشعري والمهدي أخريف، ليس لأنهم ورثة شعر بهي يصنع بدم الوجود وبحبر الكينونة وبعرق التأمل، بل لأنهم أولائك الربابنة الذين يعرفون الإبحار بسفينة اللغة والرؤية والموقف معا كالذي تجسده نصوص بوعلي وفي مقدمتها نص تحولات يوسف المغربي الكامن فينا فعلا بعد الإقامة في ذاكرتنا مثل إقامة نصوص الشعر العربي وعيون الشعر الكوني، النصوص - العيون التي تغذي بلبانها النص المذكور إذ يذكرنا بها - تذكرنا به وتدفعنا الى استحضارها بدءا بنص فتح عمورية وانتهاء بنصوص موضوعة المدينة - المدن في الشعر العربي الحديث والمعاصر·
يقول النص - يقول الشاعر بنوع من الپوليفونية:
مدنسلبتنا التقوىوالنجوىسلبتناحتى الزمن الضائعوالكلماتمدن تمشيوعلى جثثهايصحو القحصوتخبو الرايات،مدنتمرح في الأرضوعلى جثثهايقبع نسلتصنع الكلمات،وفي صحراء الربع الخاليوفي صحراء البحر الميتوجبال الأطلسوالأوراس (المقطع السادس، ص 26، ص 27)
لا يتعلق الأمر هنا بالتناص الشكلي، وإن كان واردا· إنه تناص وظيفي دينامي يكتسح كل النصوص الغائبة ويقطرها كمن يصوغ من ذهب حلي مذوبة، ها قد عدنا الى الصياغة بالمعنى الأسلوبي، الصياغة التي تدق باب الصنعة وليس التصنيع أو التصنع، تلك الصياغة القصدية التي تنبع من داخل إدراك الشاعر لما هي عليه إمكانات اللغة وممكنات الإبداع فيها إذ أن قصيدة - نص عبد الرحمن بوعلي ليست بكاء وليست رثاء مدن، وإنما هي تحيين لفجيعة مشتركة بيننا وبينه أولا قبل أن تكون فجيعة، أن تكون الفجيعة، بينه وبين شعراء سابقين مفترضين له في المتن الشعري العربي، قديمه وحديثه على السواء، خاصة شعراء المرحلة السبعينية في المشرق· أما في المغرب، فهناك تماس نصي تكويني على الأقل بين نص تحولات يوسف المغربي و بعض نصوص محمد الخمار الكنوني في ديوانه رماد هسپريس وأحمد المجاطي في ديوانه الفروسية وعبد الله راجع في ديوانه الهجرة الى المدن السفلى على مستوى موضوعة المدينة - المدن التي تحتل رمزيا موقعا بؤريا لدى كل هؤلاء وتحتله أيضا في بعض نصوص الرواية العربية الحديثة والرواية العربية الجديدة، بدءا من نجيب محفوظ، وكلنا نتذكر نص الزمن الموحش لحيدر حيدر وما يجري فيها من أنسنة دمشق التي تتهددها الرؤى والأشواق والمدارات الحزينة، ليس بالمعنى المتحذلق، وإنما بالمعنى الأونطولوجي·
إنها المدينة - إنها المدن باعتبارها الفضاءات المشرعة على كل احتمالات الحياة، احتمالات التشظي والفقدان التي ما فتئ الشعراء العرب والروائيون يلهجون بها، لكنها أيضا المدينة الزمن، المدن - الزمن، المدن الأزمنة وكذلك المدينة - الأزمنة، فالمدينة لا تأتي في النص الشعري أو في النص الروائي منفردة معزولة عن الزمن، زمن الشاعر وزمن الروائي على السواء، بل تأتي ملفعة مشفوعة بالزمن، تأتي استعارة لزمن ولى، لكنه يظل قابعا في الذاكرة، في أبراج الوقت كما يكتب ويقول الشاعر عبد الرحمن (المقطع الثامن، ص ص28، وكذلك ص 29، و ص 32 من المقطع العاشر)، ثم إن الشاعر يحس في المدينة بتربص الوقت (المقطع العاشر، ص 32)، وفي كل هذا يستعيد، الشاعر هويات أخرى:
هل يكفيك المتنبي؟التائه في ملكوت الناس!وهل يكفيك جريروالجاحظ و الأخفش؟ (المقطع الحادي عشر ص 35)
تتكرر ففي نص تحولات يوسف المغربي عبارة يا هذا الطالع من أبراج الوقت عدة مرات (ص 28، ص 29، ص 30، ص 32، ص 34، ص 36، ص 37) وفي كل تأشيرة للعبور ينداح الزمن الى أن يتوجه الشاعر في المقطع السادس عشر برغبة تفجر أصل المجاز والاستعارة:
لك أن تبقى في رحم الأرض الثكلىلك أن تبقى في هذا الجبالغارق في الأرض،لك أن تصرخ:آه·· ما أبلغ هذا الصمتوما أبهى الصورةيا يوسف في المرآةآه ما أوسع هذا الجبوما أقسى عيشكيا يوسفبين ذويك (ص 44 - ص 45)

3/24/2006 الإتحاد الإشتراكي

ليست هناك تعليقات: